ما زال مونديال قطر 2022 يكشف لنا يوماً بعد يوم دروساً لم نكن نتوقع أن يكشف عنها، أو ظواهر كنا تخيلنا أنها دُفنَتْ وانزوت تحت التراب. ويأتي الاتحاد العربي على قمة هرم الظواهر التي أثبت المونديال أنها ما زالت حية تنبض رغم الجهود الحثيثة التي بُذِلَت على مدى العقود الأربعة الماضية "وخاصة من بداية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979" سواء كانت جهوداً خارجية ماكرة أو عربية غافلة.
ما زال جيل الثمانينات وما قبله يذكر كيف كانت القومية العربية ركيزة أساسية في مقررات اللغة العربية والدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية والدين؛ مما أنتج أجيالاً تردد مفهوم الوحدة العربية حتى وإن لم تكن تدرك طبيعته حق الإدراك وتؤمن في عقلها الباطن بأن كل "بِلَادُ العُرْبِ أَوْطَانِي… وَكُلُّ العُرْبِ إِخْوَانِي".
مع بداية التسعينات بدأت فكرة القومية العربية في الانزواء، متزامنة مع التقارب من إسرائيل سراً أو علناً، وبالتالي مع الضعف المتدرج في دعم فلسطين في مقابل نمو فكرة "الدولة الوطنية" المحلية على حساب "الوطن العربي" الذي اختفى وظهر بديلاً عنه "الدول العربية" و"الشرق الأوسط".
جراء هذه الأحداث والسياسات، ظن كثير من العرب أن فكرة القومية العربية ماتت، لكن يجيء مونديال قطر 2022 ليثبت عكس ذلك، فالعاملون العرب في قطر شَكَّلوا رابطة عربية لمؤازرة كل المنتخبات العربية دون تمييز، وعلم فلسطين حاضر في كل المباريات وشوارع قطر حتى ليظن من يحضر المونديال أو يشاهد مبارياته أن منتخب فلسطين يشارك في البطولة.
أما النقطة الأبرز في المونديال فهي عدم تعاطي العرب جميعاً مع الإذاعات ومحطات التليفزيون والصحافة الإسرائيلية؛ حتى اضطر بعض الصحفيين الإسرائيليين للتحدث علانية عن عدم الترحيب بهم على المستوى الشعبي في قطر، واستبعاد أن تكون لاتفاقيات التطبيع التي وقعتها إسرائيل مع بعض الحكومات العربية أي تأثير في تغيير اتجاهات وسلوكيات العرب.
نقطة بارزة أخرى في مونديال قطر 2022 تنعكس كذلك على صفحات كثير من الصحف العربية التي تتعامل مع أخبار المنتخبات العربية على أنها تمثل "العرب" لا دولاً بعينها، وهو أمر يعرفه كل من يشاهد مباراة لمنتخب عربي على المقاهي والبيوت في الدول العربية كافة؛ إذ يتفاعل المشاهدون بكل ما أوتوا من قوة مع المنتخب العربي الذي لا يمثل دولتهم وكأنه منتخب بلدهم.
أما الأجانب في قطر، فمن الواضح أنهم يتعاملون مع العرب من جنسيات مختلفة على أنهم "عرب" وليس على أساس جنسياتهم المتنوعة، ويبدو أن كثيراً منهم بدأ في تغيير فكرته السيئة ليس فقط عن قطر، ولكن عن العرب جميعاً، وفي هذا مكسب ثقافي كبير لكل العرب.
قد يقول قائل: المهم أن تظهر هذه القومية العربية في السياسة وتوضع موضع التطبيق في التكامل الاقتصادي والثقافي والعلمي والتعليمي. وأنا مع هذا أيضاً، لكني أظن أن كل هذه الأمور قد تأتي لاحقاً، وليس عيباً أن تأتي من باب "الجلدة المنفوخة بالهواء"، ويا حبذا لو رأينا نوعاً من التكامل الاقتصادي بشكل خاص بين مجموعة من الدول العربية، وبعد المونديال مباشرة.
لكن هل سيستغل ولاة الأمور في الدول العربية هذا الزخم القومي ليعيدوا ترتيب أوراقهم السياسية والاقتصادية بما يفيد "الأمة" العربية جميعاً؟ خاصة أن العالم يشهد مرحلة فارقة في إعادة تشكيل قوى جديدة؛ جراء تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.