بدأت العملية البرية الجديدة التي ستشنها تركيا ضد شمال سوريا، والتي كانت على جدول الأعمال لفترة من الوقت، تخضع لمناقشات أوضح في الأيام الأخيرة. والغرض الرئيسي من العملية، التي من المقرر أن تكون ضد عناصر حزب العمال الكردستاني (لن أعرّفهم بأنهم منظمة منفصلة باسم "وحدات حماية الشعب")، هو تأمين الحدود الجنوبية لتركيا. وصرح وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، في مؤتمر "حوارات البحر المتوسط" الذي حضره/ يوم الجمعة، 2 ديسمبر/كانون الأول، قائلاً: "نحن بحاجة إلى مواصلة عمليتنا لتطهير المنظمات مثل داعش"، وهي حقيقة يُنظَر إليها على أنها إشارة إلى أنَّ العملية تقترب. لماذا عادت العملية البرية التركية الجديدة في سوريا إلى جدول الأعمال الآن؟ يمكننا استنباط الأسباب من خلال النظر إلى الوضع الحالي في سوريا والظروف الدولية.
منذ فترة طويلة، انسحبت الولايات المتحدة من القضية السورية، وتشارك فقط في العملية من خلال وكيلها حزب العمال الكردستاني. وفي هذه الحالة، فإنَّ الدول الموجودة بالفعل في سوريا، بخلاف تركيا، وهما روسيا وإيران، هي الدول التي ستتعامل معها تركيا من أجل العملية.
وقد أفرز الوضع الذي تعيشه هاتان الدولتان حالياً فرصة جيدة جداً لتركيا. ويبدو أنَّ تركيا ستنتهز الفرصة التي أتيحت لها لهذه العملية، على حساب العيوب الاقتصادية والإمكانات الأخرى التي سأذكرها أدناه. إضافة إلى أنَّ خطابات السلطات السياسية والعمليات الدقيقة التي ينفذها جهاز الاستخبارات الوطنية التركي ضد قيادات حزب العمال الكردستاني في سوريا تعزز أيضاً إمكانية العملية البرية المخطط لها.
بعد الانسحاب الأمريكي، كانت أكبر "مشكلة" بالنسبة لتركيا هي روسيا، التي تقف (مع حزب العمال الكردستاني المدعوم من الولايات المتحدة) إلى جانب النظام السوري. ويعود سبب "النجاح الجزئي" لتركيا في بعض مراحل عملياتها السابقة إلى سياسة روسيا تجاه سوريا. لكن الأمور ليست هي نفسها بالنسبة لروسيا، التي تتعثر في أوكرانيا منذ شهور. وقد أجبر تركيز القوة العسكرية والاقتصادية الروسية على أوكرانيا موسكو على تخفيف وجودها في سوريا. ومع ذلك، فقد عانت روسيا أيضاً من خسارة فادحة لمكانتها الدولية. في حين أنَّ هذه الأسباب تشكل مصدر قلق للنظام السوري، إلا أنها تبدو فرصة جيدة لتركيا. إذ لن تتخذ روسيا موقفاً حازماً مناهضاً للعمليات ضد تركيا، التي تواصل الاحتفاظ معها بعلاقات ثنائية جيدة (التي تستدعيها الضرورة في بعض الحالات) في ظل استمرار حرب أوكرانيا.
من ناحية أخرى، كانت إيران تعاني من أزمة اقتصادية خطيرة في السنوات الأخيرة. كما أنَّ وجودها في مناطق مثل اليمن وسوريا والعراق يفرض عبئاً اقتصادياً خطيراً على إيران، والشعب الإيراني يدرك ذلك ويشعر بعدم الارتياح تجاهه. في الأشهر الأخيرة، كانت احتجاجات التحرير في إيران بمثابة تحرك موجه مباشرة إلى النظام السياسي وانطوت على تهديد أخطر: تهديد لوجود دولة إيران الإسلامية. وهناك طريقة واحدة فقط لوقف المظاهرات الحالية المناهضة للحكومة في إيران دون المساس بالثورة الإسلامية؛ وهي الانتعاش الاقتصادي. في مثل هذه الحالة (على الرغم من أننا لا نعرف البيانات العددية؛ لأنها موجودة في المنطقة من خلال وكلائها)، يمكننا القول إنَّ وجود إيران في سوريا ربما يكون قد تلاشى. ويمكن القول أيضاً إنَّ هذا الوضع يقضي على دولة أخرى في سوريا موالية للنظام السوري لصالح تركيا.
من جانب آخر، فإنَّ العمل الإرهابي الذي وقع في شارع الاستقلال في 13 نوفمبر/تشرين الثاني يقدم لتركيا مبرراً ملموساً وواضحاً: القضاء على التهديدات للأمن الداخلي خارج حدود أمن الحدود. لأنَّ الإرهابي الذي نفّذ العملية كان عضواً في حزب العمال الكردستاني من سوريا. وفي هذه الحالة، تبدو عملية تركيا في سوريا محتملة للغاية لهذا السبب، ولأنَّ الظروف الدولية قد فتحت المجال.
ويعتبر الضوء الأخضر من الرئيس أردوغان لعقد لقاء مع الأسد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي خطوة كبيرة نحو التوصل إلى حل في سوريا. ومن المحتمل أن يصبح هذا التقارب أكثر واقعية بعد عملية تركيا المخطط لها. لأنه إذا اكتملت العملية بنجاح – مع تراجع الوجود العسكري الروسي – ستصبح تركيا والنظام السوري "جيران" مرة أخرى بعد فترة طويلة. وقد يمثل هذا فرصة لتطوير علاقات النظام التركي السوري (مثل تطوير مبادرات مشتركة في سوريا).
ومن جانب آخر، صار من الواضح في السنوات الأخيرة أنَّ وجود حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية يُشكّل تهديداً لكل من تركيا والنظام السوري. ونظراً لأنَّ هيكلة حزب العمال الكردستاني هنا تطول، وكلما طالت المدة، زادت احتمالية ترسيخ حزب العمال الكردستاني أقدامه. هذا الوضع، الذي يمثل مشكلة أمنية أساسية لتركيا، صار الآن تهديداً للأسد، الذي قد يستعيد السيطرة على سوريا بأكملها. وفي مثل هذه الحالة، قد يؤدي وجود عدو مشترك إلى التقارب بين تركيا والنظام السوري مرة أخرى، حتى وإنَّ كان ذلك من أجل المصلحة الذاتية، في إطار علاقة مربحة للجانبين.
وأخيراً، بالنظر إلى التحركات داخل تركيا، ستكون العملية المخطط لها خطوة محفوفة بالمخاطر قبل أشهر من الانتخابات. يمكننا تقييم هذا الوضع من 3 وجهات نظر. بادئ ذي بدء، ستؤدي العملية المخطط لها إلى عبء اقتصادي خطير؛ ما ينتج عنه مساوئ للبلد، وبالتالي وضع غير مريح للغاية من الناحية الاقتصادية. ثانياً، قد تخلق الخسائر التي قد تحدث أثناء العملية رد فعل مناهض للملف السوري الذي فرض بالفعل ضغطاً نفسياً على الناس لفترة طويلة. وهذا الوضع قبل الانتخابات (عند أخذه في الاعتبار مع سياسات المعارضة المؤيدة للمصالحة في سوريا) له أهمية كبيرة. وأخيراً، قد يكون لهذه العملية ضد حزب العمال الكردستاني تأثير على الأكراد في تركيا من خلال دعاية حزب العمال الكردستاني. ويمكن أن يؤدي هذا الوضع إلى إبعاد أصوات الأكراد، الذين يمثلون شريحة مؤثرة في الانتخابات، عن حزب العدالة والتنمية.
وفي مقابل هذا الاحتمال، من المهم للغاية أن يدير الرئيس أردوغان العملية مع حزب الشعوب الديمقراطي، وإذا لزم الأمر مع "إمرالي" أي عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في سجن جزيرة إمرالي، حيث إنه أكثر انفتاحاً على المصالحة من منطقة قنديل الحدودية (مقر حزب العمال الكردستاني).
إنَّ الفصل بين العمليات "السياسية والعسكرية" في القضية الكردية سيجعل دعاية حزب العمال الكردستاني غير مجدية في نظر المجتمع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.