ودَّع المنتخب الإيراني بطولة كأس العالم من الدور الأول، بعد أن حلَّ ثالثاً في المجموعة الثانية، خلف كل من إنجلترا والولايات المتحدة، وبالرغم من خيبة أمل الشعب الإيراني في عدم تأهل منتخبهم للدور الثاني من مونديال قطر 2022، فإن رحلة كأس العالم، كانت فرصة مواتية للمنتخب والجمهور الإيراني، لتسليط الضوء على الأوضاع المضطربة في بلادهم، جراء الأحداث السياسية الأخيرة.
داخل المستطيل الأخضر، لم تكن الأمور على ما يرام بالنسبة لأبناء المدرب البرتغالي كارلوس كيروش، خاصةً في افتتاحية المونديال أمام منتخب إنجلترا، الذي أمطر شباكهم بسداسية تاريخية، ثم عودة الأمل بانتصار في اللقاء الثاني أمام منتخب ويلز بهدفين، ثم الخسارة في لقاء الحسم أمام المنتخب الأمريكي، في لقاءٍ استدعى الذكريات السياسية قبل الكروية بين البلدين.
لكن بعيداً عن الكرة، نقول إن لاعبي المنتخب الإيراني، ومدربهم، بمساندة جمهورهم، أحرزوا تأهلاً في مونديال قطر، على حساب النظام الإيراني، وأمام أنظار العالم كله.
مشاهدات من مونديال قطر
لم يلبث المونديال أن يبدأ، إلا وكانت الأحداث السياسية حاضرة فيه، وبقوة، مفنّدة كل الادعاءات التي تقول إن كأس العالم للكرة فقط، ولا دخل له بما يدور خارج المستطيل الأخضر، لكن الحقيقة أن ما يدور خارج ملاعب المونديال، كان جزءاً أصيلاً وتاريخياً من كأس العالم، خاصة الأحداث السياسية، والبداية في مونديال قطر كانت من عند لاعبي المنتخب الإيراني.
في المباراة الافتتاحية، ومع دخول المنتخب الإيراني ملعب المباراة لمواجهة المنتخب الإنجليزي، وفي اللحظة التي ينتظرها الجميع، لحظة الفخر بعزف وترديد النشيد الوطني، في أهم معتركات كرة القدم، لم يردد اللاعبون الإيرانيون النشيد الوطني، مع صفارات استهجان من الجمهور الحاضر في مدرجات الملعب، اعتراضاً على قمع الشرطة للمتظاهرين في إيران.
بدأت المظاهرات في إيران في 14 من سبتمبر/ أيلول 2022، عقب مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، بعد تعرّضها لضرب مبرح أثناء احتجازها من شرطة الأخلاق الإيرانية، لتجتاح تظاهرات واسعة النطاق إيران بأكملها، احتجاجاً على مقتل مهسا، وعلى القانون الذي اعتُقلت بسببه، وهو مخالفة الزي الموحد لنساء الجمهورية، والذي يعود عمره لـ4 عقود ماضية، واستمرت المظاهرات -التي يُشار إليها منذ الثورة الإيرانية عام 1979-حتى وقت كتابة المقال.
قوبلت المظاهرات بقمع الشرطة للمتظاهرين، ومحاولة الحكومة الإيرانية التعتيم على الأحداث، بمنعها الصحفيين والمراسلين الأجانب من تغطية الأحداث، أو تصويرها، لكن ومع كل هذه المحاولات للتعتيم على التظاهرات، كان مونديال قطر بمثابة القشة التي قصمت ظهر النظام الإيراني أمام العالم.
فمع عدم ترديد لاعبي إيران للنشيد الوطني في أولى مبارياتهم، ورفع الجمهور لأقمصة منتخب إيران، تحمل اسم مهسا أميني أمام أعين العالم كله، كانت تظاهرات إيران، ومقتل مهسا حديث العالم كله، وتحولت المؤتمرات الصحفية للمنتخب الإيراني ومدربهم كارلوس كيروش، لمؤتمرات سياسية، بدلاً من رياضية.
فتارةً يسأله أحد الصحفيين الإنجليز عن حقوق المرأة، فيدعوه للتفكير في شؤون بلده، وشؤون الهجرة هناك في إنجلترا. وأخرى يخرج عبر "تويتر"، ليتحدث عن إيران بلد الفن والثقافة، ويدعو المدرب الألماني السابق "كلينسمان" – الذي اتهم إيران في تدني مستوى ثقافتها- أن يزور إيران ليتعلم الفن والثقافة، ويرى البلد الذي أثرى الفن والشعر والثقافة، ومرة ثالثة يدعم لاعبيه في موقفهم التضامني مع أهل بلدهم.
حدث كل ذلك، في غضون عشرة أيام، لعب فيها المنتخب الإيراني 3 مباريات فقط، ولكنها 3 مباريات في المونديال، ما يعني أن لو لعبت دقائق فقط، فالعالم كله يشاهدك، وهو ما فطن إليه، واستغله أحسن استغلال اللاعبون والجمهور الإيراني، للتوعية بقضيتهم، ولفت أنظار المجتمع العالمي لهم.
تمتد علاقة كرة القدم والسياسة في إيران لعقود، فلا يُعدّ ما حدث في مونديال قطر إلا حلقة واحدة ضمن حلقات مسلسل تقاطع الكرة في إيران، والمؤكد أن نهاية هذا المسلسل لم تحن بعد، لكن كيف بدأت القصة إلى أن وصلت لموقف المنتخب الإيراني في مونديال قطر؟
ما قبل الجمهورية الإسلامية
كرة القدم هي الرياضة الأولى في إيران، كما يقول المدرب الكندي المولود في إيران، "موسافات"، وهو ما يجعل المنتخب الإيراني أداة قوية يمكن من خلالها التعبير عن دعم المتظاهرين.
"يُنظر إلى المنتخب الوطني على أنه أكثر تمثيلاً للشعب الإيراني من النظام".
-أوميد نمازي – مساعد مدرب المنتخب الإيراني من 2011 إلى 2014 – لشبكة CNN Sport.
تبدأ القصة منذ قرن من الزمان. يُعتقد بشكل عام أن إيران عرفت كرة القدم من خلال (المدارس التبشيرية، وصناعة النفط).
أولاً، في المدارس التبشيرية البريطانية، كانت الألعاب، بما في ذلك كرة القدم، جزءاً من المناهج الدراسية. بينما جعلت المدارس التبشيرية كرة القدم مقصورة على أبناء النخبة فقط، وأصبحت الطبقة العاملة الإيرانية على دراية باللعبة من خلال الموظفين البريطانيين في شركة النفط، هؤلاء اللاعبون الإيرانيون الشباب الذين انضموا إلى العمال البريطانيين، واجهوا في البداية بعض العداء من بيئتهم الاجتماعية، حيث إن سراويل اللاعبين القصيرة انتهكت قواعد اللباس التقليدي.
في عام 1920، أنشأ عدد من عشاق كرة القدم الإيرانيين والبريطانيين الاتحاد الإيراني لكرة القدم. وسرعان ما أُعيدت تسميته إلى اتحاد تعزيز وتقدم كرة القدم ووافق رضا خان، شاه إيران، على أن يصبح الرئيس الفخري لها. وأصبحت أول منظمة رياضية إيرانية حديثة.
بحلول منتصف العشرينيات من القرن الماضي، أصبحت كرة القدم رمزاً لتقدم الدولة. واصل رضا خان، إظهار اهتمامه بكرة القدم. حتى أنه حضر مباراة بين فريق إيراني وفريق من المغتربين البريطانيين، حيث فاز الإيرانيون لأول مرة على البريطانيين، أصحاب كرة القدم، كما يُعتقد.
تحولت كرة القدم إلى اللعبة الشعبية الأولى في إيران، وعلى الرغم من المقاومة التقليدية لها في البداية، انتشرت كرة القدم في أرجاء إيران، كما النار في الهشيم، ليس فقط بسبب قيمتها الجسدية، ولكن بشكل خاص لأنها علّمت الأولاد الإيرانيين اللعب بطريقة عادلة، وخلق علاقات إنسانية أفضل.
في عام 1945، تم إنشاء الاتحاد الوطني لكرة القدم بصفة رسمية، وسرعان ما انضم إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم. في أواخر الستينيات أصبحت كرة القدم هي الرياضة الأولى في البلاد، لأسباب مختلفة، أهمها كان التوسع الحضري الهائل، حيث يفضل المجتمع الجماهيري رياضة مثل كرة القدم، والتي يمكن أن يتبعها عشرات الآلاف من المتفرجين في الاستاد؛ كذلك طغيان مفاهيم مثل الولاء والهوية الجماعية، والتي تعززها كرة القدم في الأساس.
في عام 1968 حدث انتصار ذو أهمية سياسية قوية. بعد عام واحد من نكسة 1967، فازت إيران على إسرائيل في نهائيات كأس أمم آسيا. لم تكن المباراة صراعاً بين دولتين فقط، ولكنه كان صراعاً دينياً بامتياز؛ وهو ما أكد أهمية كرة القدم بالنسبة للشعب الإيراني.
استمر ذلك الوضع حتى نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي أدت إلى تغير شكل الكرة وعلاقة الجمهور إلى الأبد.
كرة القدم في جمهورية إيران الإسلامية: شك ثم يقين
عارض القادة السياسيون في الجمهورية الإسلامية كرة القدم بسبب تعارضها مع مبادئ الإسلام، كان القادة منزعجين بشكل خاص من عري الرجال، لذلك كان ممنوعاً لفترة طويلة على النساء مشاهدة لاعبي كرة القدم. سبب آخر هو تصور كرة القدم على أنها رياضة غربية ووسيلة للإمبريالية الرأسمالية، وهو ما تقاومه إيران بشدة بصفتها أحد الخصوم الرئيسيين للولايات المتحدة.
حاول النظام حظر كرة القدم، لكان ذلك قد أثار استعداء فئة كبيرة من الشعب، في أواخر الثمانينيات، بدأ بعض القادة يدركون أن سياسة حظر كرة القدم كانت هزيمة ذاتية، وأصبحوا أقل تشدداً تجاه الأحداث الرياضية.
خلال الثمانينيات، لم يحضر المنتخب الإيراني أي نهائيات لكأس العالم بسبب الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988). كما عانت كرة القدم المحلية من آثار الصراع. حيث انسحب المنتخب الإيراني من التصفيات الآسيوية المؤهلة لكأس العالم 1982، ورفض المشاركة في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1986 بسبب اضطراره للعب على أرض محايدة.
تدريجياً قبل حكام إيران فكرة أن كرة القدم كانت بلا شك هي الرياضة الأكثر شعبية في إيران، أدى دعم الدولة إلى تحسين أداء المنتخب الوطني. ففي دورة الألعاب الآسيوية عام 1990 في بكين، فاز المنتخب الإيراني بالميدالية الذهبية في كرة القدم.
وفي عام 1994، اكتسبت كرة القدم أهمية سياسية جديدة، كان المدرب "ماييلي كوهان"، يُشرف على تدريب المنتخب الإيراني، لكنه فشل في التأهل لكأس العالم في أمريكا، فتم استبداله على الفور بالمدرب بالدير فييرا وتحت إشرافه تمكن الفريق من التأهل إلى كأس العالم 1998. كانت الاحتفالات ضخمة، وعمّت الاحتفالات أرجاء إيران، وعندها فقط تعلم السياسيون الإيرانيون الحكمة التي يُدركها رؤساء أمريكا الجنوبية طوال الوقت، وهي ربط نفسك بحدث شعبي، سيُظهر أنك تشارك الناس قضاياهم، ولا شك أن كرة القدم وفعاليتها هي الأنسب لذلك.
بالنسبة للشباب الإيراني، كانت المشاركة في كأس العالم تعني عودة أمتهم إلى المجتمع الدولي. تم تعزيز اندماج الإيرانيين في المجتمع العالمي بشكل رمزي بعد كأس العالم 1998، عندما بدأ العديد من اللاعبين الإيرانيين البارزين اللعب لفرق كرة القدم الأجنبية، خاصة في ألمانيا.
بعدها بـ4 أعوام، لم ينجح المنتخب الإيراني في التأهل إلى نهائيات كأس العالم 2002، الأمر الذي تسبب في العديد من المظاهرات والشائعات التي انتشرت عن تعمد الحكومة إصدار تعليمات للمنتخب الوطني بالخسارة لمنع تكرار احتفالات عام 1998.
استطاعت إيران التأهل إلى نهائيات كأس العالم 2006 في ألمانيا. أدى التأهل إلى احتفالات جماهيرية وأعمال شغب، مما تسبب في فوضى داخلية واضطرابات بين الشباب والمسؤولين، في نوفمبر 2006، تم تعليق عضوية إيران مؤقتاً في الفيفا بسبب تدخل الحكومة في شؤون كرة القدم، وانتهاك المادة 17 من قانون الفيفا.
أثناء التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010، وتحديداً في المباراة ضد كوريا الجنوبية، ارتدى 4 أعضاء من المنتخب الإيراني الأساور الخضراء، تضامناً مع الاحتجاجات على إعادة انتخاب أحمدي نجاد كرئيس للبلاد، في حين أن اللاعبين لم يتمكنوا من المشاركة جسدياً في المظاهرات في شوارع طهران، فقد استخدموا تصفيات كأس العالم لكرة القدم كوسيلة ضغط لتركيز الاهتمام الدولي على الاحتجاجات.
كذلك، كان بعض المعجبين يلوحون بأعلام تحمل شعارات مثل "إيران الحرة"، لفت تضامن اللاعبين الانتباه في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى غضب السلطات على اللاعبين الأربعة، وتوقيع عقوبات قاسية عليهم، فبالإضافة إلى منعهم مدى الحياة من قبل مسؤولي كرة القدم الإيرانيين، قيل إن اللاعبين الأربعة مُنعوا من إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام الإخبارية، مدى الحياة.
لم يكن هذا هو المثال الأول من هذا النوع. شكل مماثل من أشكال المقاومة حدث في مونديال 1998 في فرنسا، لكنه ظل دون أن يلاحظه أحد من قبل وسائل الإعلام. في المباراة ضد الولايات المتحدة، كانت هناك لافتات ضخمة وقمصان عليها صور ماريانا رجوي، إحدى قيادات المعارضة الإيرانية ، مؤشراً على الاحتجاج ضد النظام.
تحت حكم أحمدي نجاد، كان هناك الكثير من التدخل السياسي في كرة القدم. يتحدث "أفشين قطبي"، الذي كان المدير الفني للمنتخب الإيراني من 2009 إلى 2011، عن حالة كرة القدم الإيرانية، فيقول:
"إن كرة القدم تلعب دوراً رئيسياً في الاتجاه السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي الذي تتخذه الأمة. الأشخاص الذين يقررون اتجاه البلد يستخدمون اللعبة باستمرار لأجندتهم السياسية. هناك إيجابيات وسلبيات لكل ذلك. تدعم الموارد المالية للحكومة اللعبة ولكن يتم التلاعب بها سياسياً. تصبح معتمدة بشكل كبير على النظام السياسي والمال وتبدأ في العمل كعمل سياسي".
حتى أن ويكيليكس، كانت قد كشفت عن برقية دبلوماسية من طهران زعمت أن "أحمدي نجاد راهن بقدر كبير من رأس المال السياسي في كرة القدم الإيرانية، في محاولة للاستفادة من شعبية كرة القدم بين الناخبين".
كيف تشكل موقف اللاعبين الإيرانيين في مونديال قطر؟
مع اشتعال المظاهرات في قطر، ومع التعتيم الإعلامي خرجت الصحافة لتصم لاعبي المنتخب بالعار، بسبب عدم دعمهم للمتظاهرين، أو حتى تنديدهم بسقوط قتلى، حيث كتبت صحفية كرة القدم الإيرانية، سينا سايميان، في تغريدة:
"أشعر بخيبة أمل شديدة، حزينة للغاية بسبب هؤلاء اللاعبين، إن الافتقار إلى الفطرة السليمة، وعدم التعاطف وعدم الحساسية لديهم أمر محبط حقاً.هناك غياب واضح لأي شعور بالوعي، لم يعد منتخب كرة القدم، هو منتخب الشعب كما كان دائماً، بل أصبح منتخب الجمهورية الإسلامية".
أدى هذا النقد، إلى كسر بعض اللاعبين لصمتهم، وإعلان مواقف صريحة لدعم المتظاهرين، وكانت الشرارة من عند المدافع الإيراني إحسان حجافي، الذي تحدث علانية عن دعم واضح للاحتجاجات المناهضة للحكومة في الداخل، قائلاً إن اللاعبين يجب أن يكونوا صوت أولئك الذين يعانون.
أدى موقف إحسان، إلى تحرك كثيرين، وكسر حاجز الخوف لديهم، وخروجهم علانيةً للحديث عن الاحتجاجات. لاعب كرة القدم التاريخي لإيران علي دائي، دعم المتظاهرين علناً ،حضور كأس العالم تضامناً مع المتظاهرين. في غضون ذلك، دعم لاعب كرة القدم الشاطئية سعيد بيرمون المتظاهرين، بعد أن سجل هدف الفوز في نهائي كأس إنتركونتيننتال لكرة القدم الشاطئية.
شكل كل ذلك، الموقف الحاسم للاعبين الإيرانيين، في مونديال قطر. ربما لا يعلمون ما قد يلاقونه عند عودتهم للبلاد، لكن الأكيد أن الكرة والسياسة في إيران، لن تنتهي عند هذا الحد، أياً كانت العقوبة التي ستُوقع عليهم، والأكيد أيضاً، أن كأس العالم، سيظل مسرحاً لإبراز تقاطع كرة القدم الوثيق مع ما يدور في العالم؛ لأنها ببساطة، هي لعبة هؤلاء الذين يقفون في المدرجات، وخلف شاشات التلفاز، وفي ميادين الثورات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.