مع إعلان سياسة سعر الصرف المرن للجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي في السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تراجع سعر الجنيه المصري بشكل ملحوظ خلال الأيام التسعة الأولى للإعلان، وأشاد الخبراء خلالها بسياسة محافظ البنك المركزي الجديد حسن عبد الله الذي ترك عوامل العرض والطلب تتحكم بالسعر.
وذلك بشكل معاكس لسياسة محافظ البنك المركزي السابق طارق عامر، الذي تدخل إدارياً في تحديد سعر الصرف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، مما جعله غير معبر عن السعر الحقيقي، الأمر الذي اضطره إلى القيام بخفض ملحوظ للسعر في شهر مارس/آذار الماضي، ثم قام بخفض ضئيل تدريجي للسعر حتى ترك منصبه في شهر أغسطس/آب الماضي.
لكنه بعد مرور الأيام التسعة الأولى من إعلان سياسة سعر الصرف المرن، عاد مسار سعر الصرف إلى نفس سياسة التدخل الإداري في تحديد السعر، وتركه ينخفض يومياً ما بين قرش واحد أو قرشين وربما أقل من ذلك أحياناً بنحو بضعة مليمات أو ثباته.
وبعد وعود المحافظ الجديد بالتخلي التدريجي عن القيود على الواردات، التي أعلنها المحافظ السابق في الثاني عشر من فبراير/شباط الماضي، ووعده بإنهاء تلك الإجراءات بنهاية العام، والتدخل لحل مشكلة البضائع المستوردة المتراكمة بالموانئ بسبب نقص الدولار بالبنوك، والتي أدت لتأثر العمل بمزارع الدواجن نتيجة نقص الأعلاف الموجودة بالموانئ، وتوقف بعض شركات الصناعات الغذائية لنقص مستلزمات الإنتاج المحجوزة بالموانئ.
الوديعة القطرية والأذون الدولارية لا تكفي
وهو ما تكرر أثره مع صناعات أخرى، لكنه لم يكد يمر سوى أسبوعين فقط من الإعلان عن تلك الإجراءات لتيسير الاستيراد تدريجياً، فإذا بالبنوك تتوقف عن فتح الاعتمادات المستندية أو مستندات التحصيل، اللازمة لتمويل عمليات الاستيراد خلال الأسبوعين الماضيين، الأمر الذي انعكس على السوق السوداء للعملة ليرتفع السعر بها عن السعر الرسمي بحوالي جنيهين، بينما زاد سعر التعامل في محلات الذهب وبعض الأنشطة الأخرى عن ذلك، ليدور السعر ما بين 26 و28 جنيهاً للدولار مقابل حوالي 24.5 جنيه بالبنوك.
ويظل السؤال عن أسباب تعثر مسيرة البنك المركزي والحكومة لتنفيذ سياسة سعر الصرف المرن، التي أعلنتها والتزمت بها مع صندوق النقد الدولي كشرط أساسي للحصول على موافقته على إقراضها خلال الشهر الحالي.
وبالطبع سيقول البعض إن قرض الصندوق لم يصل بعد، وبالتالى فإن مشكلة نقص الدولار الموجودة منذ منتصف العام الماضي، هي السبب الرئيسي لتوقف البنوك عن تمويل عمليات الاستيراد حتى للصناعات الغذائية التي من المفترض أن لها أولوية في التمويل أو مستثناة من نظام الاعتمادات المستندية.
كما سيقول البعض إن مرور خمسة أسابيع على إعلان سياسة سعر الصرف المرن هي فترة غير كافية للحكم على نجاح النظام الجديد، بدليل أن استقرار سعر الصرف بعد تعويم نوفمبر/تشرين الثان 2016، استمر حوالي ستة أشهر بعد قرار التعويم، وهو أمر نتفق معه، لكن سرعة النكوص عن المسار بعد أسبوعين فقط أثارت مخاوف أكبر.
فالمفترض أنه عندما أجرى الوفد المصري محادثاته مع قيادات صندوق النقد الدولي في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي في واشنطن، وعلى أساسها تم إعلان نظام السعر المرن أواخر نفس الشهر، أن البنك المركزي والحكومة كانت لديهما حساباتهما لتعزيز الرصيد من العملات الأجنبية، للدفاع عن سعر الصرف الجديد بعد قرار مرونة سعر الصرف، سواء من موارد محلية أو خارجية.
خاصة مع وصول وديعة قطرية بقيمة مليار دولار في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، وهي أكبر من القسط الأول الذي ستحصل عليه مصر من قرض الصندوق والمتوقع بلوغه 750 مليون دولار، كما جرى الحديث عن الحصول على نصف مليار دولار من الجزائر مواكبة لانعقاد القمة العربية بها، واستمر طرح أذون خزانة حكومية بالعملات الأجنبية كان إحداها بقيمة 1.6 مليار دولار، بجانب استمرار الحكومة في الاقتراض الخارجي خلال الشهور الأخيرة.
48.7 مليار دولار للدين الخارجي العام الحالي
وأيضاً استمرار مشتريات المستثمرين الإماراتيين والسعوديين لحصص من شركات مصرية خلال الشهور الأخيرة أيضاً، وكذلك استمرار بيع أراضٍ للمصريين بالخارج، ورفع سعر الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية لجذب المدخرات بتلك العملات.
والإعلان عن مشروع السماح بدخول سيارات من قبل المصريين بالخارج، بدون رسوم نظير إيداع قيمة الرسوم بحساب مصرفي بدون فوائد، والحصول عليه بعد خمس سنوات بالعملة المحلية، بالإضافة إلى استمرار الموارد المعتادة من التصدير وقناة السويس والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر وخدمات النقل وغيرها من الخدمات.
لكن من الواضح أن قيمة الفجوة الدولارية أكبر من كل تلك الموارد السابقة، حيث بلغ العجز في صافي العملات الأجنبية بالجهاز المصرفي حتى سبتمبر/أيلول الماضي – وهي آخر بيانات متاحة – 22.6 مليار دولار، موزعة بين عجز بالبنك المركزي بقيمة 8.6 مليار دولار، وعجز بباقي البنوك العاملة بالبلاد بقيمة 14 مليار دولار.
بينما كان مطلوب سداد أقساط وفوائد للدين الخارجي بلغ مجموعها بالعام الحالي، 15.7 مليار دولار للقروض متوسطة وطويلة الأجل، بخلاف 33 مليار دولار للقروض قصيرة الأجل، أي بإجمالي 48.725 مليار دولار، كذلك هناك متطلبات لشراء سلع البطاقات التموينية من زيت وسكر ودقيق، وشراء المنتجات البترولية المستوردة من البوتاجاز والسولار والمازوت والبنزين وكذلك النفط الخام لتكريره محلياً.
ولذلك ورغم إجراءات البنك المركزي لترشيد الواردات، وما رافقها من إجراءات مماثلة لوزارتي التجارة والمالية، فقد بلغت قيمة الواردات السلعية 21.3 مليار دولار خلال الربع الثاني من العام الحالي، حسب بيانات البنك المركزي، ولم تنخفض إلا بنحو 2.3 مليار دولار عما كانت عليه بالربع الأول من العام الحالي، لارتباطها بحاجات ضرورية سواء كغذاء للسكان، أو كمواد خام ومستلزمات إنتاج وآلات للشركات الإنتاجية.
رسوم التحويلات تأكل الفائدة المصرفية
ولهذا فإنه حتى في حالة وصول قرض الصندوق البالغ 3 مليارات دولار دفعة واحدة وقرض الصندوق الجديد التابع لصندوق النقد والبالغ 1 مليار دولار، وكذلك الخمسة مليارات دولار التي طلب الصندوق اقتراضها من دول ومؤسسات تمويل، فإن مجموع تلك القروض البالغ 9 مليارات دولار يكاد يكفي الواردات السلعية والخدمية في شهر واحد.
كما أن التعويل على بعض المسارات التي اتجهت إليها السلطات المصرية مؤخراً لا يفي بحل مشكلة نقص الدولار، مثل رفع الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية، فإذا كانت شهادات الإيداع الدولارية لمدة ثلاث سنوات أصبح عائدها 5.3%، فإن رسوم تحويل الأموال من قبل هؤلاء لمصر تصل إلى 7% في بعض البنوك، وتتعدى ذلك مع شركات تحويل الأموال خاصة للمبالغ الصغيرة.
وفيما يخص الحصيلة الدولارية المتوقعة من رسوم إدخال سيارات المغتربين فإنها ستكون محدودة أيضاً، وبغض النظر عن بلوغ قيمة ما تم تحويله خلال ثمانية أيام من المبادرة والبالغ 1.3 مليون دولار فقط، وهي المبادرة التي تصل مدتها إلى أربعة أشهر فقط بداية من منتصف الشهر الماضي، فإن صعوبة الإجراءات وارتفاع قيمة الرسوم، والتفاوت الكبير بين قيمة الرسوم بين دول الخليج التي يعمل بها معظم المغتربين بالمقارنة لدول الاتفاقيات التجارية، كل ذلك يشير إلى عدم توقع ما ذكره وزير المالية قبل أسابيع من دخول 2.5 مليار دولار من خلال ورود نصف مليون سيارة.
وإذا كان وزير المالية يتحدث عن بلوغ عدد المصريين الذين سجلوا بياناتهم على منصة المبادرة 20 ألف شخص خلال أول أسبوعين، فإن هذا التسجيل يمثل المرحلة الأولى من عشر مراحل تالية، وربما لا يستطيع الكثيرون حتى من العشرين ألفاً هؤلاء استكمال الإجراءات المعقدة.
وحتى الاعتماد على مناشدة محافظ البنك شركات السياحة والفنادق، لإيداع حصيلة إيراداتهم الدولارية في البنوك مقابل تسهيلات في التمويل، فإن ذلك يتعارض مع قيام البنك المركزي والحكومة برفع قيمة الفائدة بمبادرة البنك المركزي لشركات السياحة من 8% إلى 11%، مما أوجد أزمة ثقة، كذلك انخفاض متوسط إنفاق السائح والذي يصل إلى 94 دولاراً بالليلة، في ظل حرق الأسعار ورحلات الشارتر المدعومة، ونوعية السياح الواصلين لمصر من ذوي الدخول المتوسطة.
استمرار تحويلات المغتربين رغم السوق السوداء
أما الاعتماد على تحويلات المصريين بالخارج باعتبارهم الرافد الأكبر للعملات الأجنبية، فإنه سيظل مقيداً باستمرار وجود السوق السوداء التي تعطيهم فارقاً ملموساً، مما يدفعهم للتعامل معها بعيداً عن البنوك، بدليل انخفاض قيمة تحويلات المصريين بالخارج الشهرية عبر البنوك من 3.3 مليار دولار بشهر مارس /آذار الماضي تدريجياً بالشهور التالية، لتصل إلى 2.2 مليار دولار بشهر أغسطس/آب الماضي كآخر بيانات معلنة.
لكنها ستظل مورداً جيداً نظراً لحتمية إرسال ملايين المغتربين المبالغ الشهرية الدورية لأسرهم لتغطية نفقات المعيشة، بصرف النظر عن فارق السعر مع السوق السوداء، وذلك عبر المصارف نظراً لانتشارها الجغرافي بأنحاء البلاد بما يسهل مهمة تلك الأسر في تلقيها.
كذلك انتظار المزيد من القروض الخليجية كما حدث خلال السنوات الماضية، يجب النظر إليه في ضوء بلوغ قروض مصر لدول الخليج 35.5 مليار دولار حتى منتصف العام الحالي بخلاف قروض من بنوك إماراتية لا يعلن البنك المركزي عن قيمتها،ومن هنا كان قرار السعودية الأخير تجديد وديعة مارس/آذار الماضي البالغة 5 مليارات دولار ولم تتحدث عن إقراض جديد.
أما على الجانب الآخر من الصورة، فقد بلغت قيمة الواردات السلعية لمصر 61 مليار دولار، خلال الشهور التسعة الأولى من العام الحالي حسب جهاز الإحصاء ورغم إجراءات الترشيد، وهو رقم مرشح للزيادة بالعام المقبل سواء بسبب زيادة عدد السكان أو الضغوط الدولية أو ضغوط القطاع الخاص لإزالة قيود الاستيراد .
كذلك تبلغ أقساط وفوائد الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل بالعام المقبل 19.95 مليار دولار، وفي عام 2024 حوالي 25.3 مليار دولار، وفى العام التالي 15.7 مليار دولار، وفي عام 2026 تبلغ 16.8 مليار دولار، وهي قيم قابلة للزيادة في ظل استمرار الاقتراض، كل ذلك بخلاف سداد فوائد وأقساط القروض القصيرة الأجل بكل سنة، والتي بلغت قيمتها بالعام الحالي وحده 33 مليار دولار.
وكل ذلك يحدث مع إصرار السلطات على إكمال العاصمة الإدارية وغيرها من المشروعات القومية، خاصة مع عدم تحقق الوعود الموقوتة السابقة بانتهائها، مما يزيد من إهدار الموارد الدولارية في أمور لا تدر عملات صعبة، ولا تفي بسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.