في الأسابيع القليلة المتبقية من عام 2022، لا يبدو في الأفق السياسي اللبناني أو الخارجي ما يوحي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان، ما يعني العودة إلى رحلة التراشق السياسي والإعلامي بين حلفاء حزب الله وتحديداً حركة أمل وسليمان فرنجية من جهة، والتيار الوطني الحر من جهة أخرى، وتبدو الحقيقية الأعمق للاستعصاء السياسي اللبناني هي جماعات السلطة، وعلى رأسها حزب الله، تريد إنضاج الظروف لتأتي التسوية الرئاسية في أفضل الشروط الإقليمية والدولية، وتحقِّق المقدار الأكبر من المكاسب الداخلية والخارجية لكل واحد من حلفائه.
الانتخابات اللبنانية والمرشحون
في هذا الإطار يتنافس على سد الشغور الرئاسي مرشحان فعليان لا ثالث لهما، وهما المرشح المصنَّف توافقياً من داخل المؤسسات الوطنية، وهو قائد الجيش العماد "جوزف عون"، بالإضافة لمرشح حزب الله غير المعلن وصديق بشار الأسد "سليمان فرنجية"، فيما باقي المرشحين مصنفون بمرشحي المناورة السياسية، ويبرز زياد بارود وجهاد أزعور وصلاح حنين.
وبالعودة لفكرة التسوية اللبنانية بكل أشكالها ومندرجاتها المحلية والإقليمية، فإن أية تسوية في لبنان سيكون ممرها الإلزامي توافقاً سعودياً مع إيران دون ذلك، فإن الفراغ سيكون طويلاً، أو إنه في حال حصل انتخاب لرئيس جديد، لن يكون ترجمة لمشاريع التسوية الخارجية الملزم لبنان بها، ما يعني أن انتخاب رئيس دون توافق إقليمي ودولي يعني انتصار المعركة على التوافق، وهذا ما يسعى حزب الله لعدم تكراره بعد تجربة ميشال عون.
بالمقابل فإن مسلسل التسويات الحاصلة في لبنان والمنطقة كان نتاج تقاطعات إقليمية بين واشنطن وطهران، وانضمت لها باريس مؤخراً، فيما جرى استبعاد السعودية عنها بشكل كلي، ما سبب أزمة لدى شريحة واسعة تعتقد أن الرياض تمثلها في عمقها الاستراتيجي، وتحديداً في لبنان والعراق، وأبرز تلك التسويات هي تسوية الرئاسة اللبنانية خريف 2016 في نهاية عهد باراك أوباما، بين سعد الحريري وجبران باسيل، برعاية حزب الله.
حينها كانت السعودية، التي كانت تعيش عصر تحول العرش الملكي والنفوذ بين عصر الملك عبد الله والملك سلمان، بعيدة عن تحولات التسوية اللبنانية، ولمست الأطراف المحلية حينها التقاءً أمريكياً إيرانياً في أعقاب الاتفاق النووي، بالمقابل تعاطت السعودية مع هذه التسوية على أنها مبتورة وغير مجدية، بكونها كانت خارج تفاهماتها ولم تستطع تحصيل أي مكتسب في مساحات أخرى وتحديداً باليمن، والتي تشكل جرحاً غائراً في خاصرة الأمن القومي السعودي، لذا كانت ردة الفعل السعودية تجاه التسوية أكثر قسوة عبر إقصاء سعد الحريري من المشهد السياسي بشكل شبه كلي.
بالتوازي نظرت السعودية إلى العديد من الملفات الإقليمية واللبنانية على أنها مساعٍ أمريكية وإيرانية لتجاوزها أولاً عبر مقايضة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل مقابل تسوية حكومية ورئاسية في العراق، عبر الإتيان بمحمد شياع السوداني لسدة الحكم العراقي، خلفاً لمصطفى الكاظمي الأقرب للبوصلة السعودية، وهذا المسار أخرج السعودية من ملفين رئيسيين على حساب دخول قطري تركي في ملفات العراق وسوريا.
لذا فإن السعودية تسعى للتشدد لبنانياً عبر تكوين ما يطلق عليه من قبل مقربين منها لبنانياً أنها "جبهة الرفض"، المتمثلة بأصوات ميشال معوض الرئاسية، والتي تصل إلى 45 صوتاً، كذلك إعادة فتح ملف حماية اتفاق الطائف من أية تعديلات جوهرية قد تطرح مستقبلاً، والمعركة التي خيضت قبيل أسابيع في وجه عشاء السفارة السويسرية، والحملة التي شُنت على هذه الدعوة التي كان سيحضرها ممثلو الكتل والقوى السياسية اللبنانية.
لبنان بين النشاط السعودي و التدخل التركي
هذا النشاط السعودي اللبناني، والذي لم يترجم بشكل فعلي بأي ملف أو أي انجاز يذكر، يقابله في الضفة المجاورة حماسة تركية لإجراء عملية عسكرية في الجانب البري المحاذي للحضور الكردي.
وذلك عقب انفجار تقسيم وعمليات القصف الجوي والبري، لذا تستعد أنقرة لتعديل الواقع الجيوسياسي في شمال سوريا من خلال حملة عسكرية ضد جماعات الانفصال الكردي، والتي باتت تمثل خطراً كبيراً على شكل الخريطة السورية والعراقية بعد جرعات الدعم الأمريكي وغض النظر الروسي.
وخلال الأيام الماضية، وفي عز القصف الحاصل، كان يبدو للمتابعين أن الإدارة التركية تنتظر تفويضاً أمريكياً للبدء بعملية عسكرية، وخاصة عقب اللقاء الذي جمع بايدن وأردوغان، باعتبار أنه من الطبيعي الاعتقاد بأن هذا الانتظار له علاقة بتفاهمات جانبية تجري صياغتها وتتعلق على الأرجح بحدود العملية ومداها، والأهم المهمات التي ستكلف بها تركيا في سوريا في ظل الانشغال الروسي في أوكرانيا.
والأكيد أن أنقرة تعيد طرح طموحها الإقليمي للعب أدوار أوسع، لكن هذه المرة بعلاقات أكبر بعد سلسلة إصلاح العلاقات التي جرت مع السعودية ومصر والإمارات، والتي قد تستتبع مع النظام السوري، وهذه التطورات تزامنت مع حرب أوكرانيا والتعثّر العسكري الروسي ليدفعا بوتين لانسحابات مرحلية وجزئية من الميدان السوري، للتركيز على الفخ الذي اندفعت له موسكو مع كييف، ومن خلفها حلفاؤها الغربيون.
وهذا المسار دفع أردوغان وفريقه الحكومي والرئاسي للعمل على التقاط الفرصة وملء الفراغات في سوريا عوضاً عن إيران الساعية لذلك، بعد تحجيمها قبيل سنوات من قبل الجانب الروسي.
هذه التحديات تتزامن مع اقتراب الاستحقاق المنتظر لأردوغان، وهو الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي تبدو حرجة هذه المرة في ظل رغبة المعارضة في توحيد جهودها مجتمعة لإزاحة أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم من اللعبة السياسية، لكن الظروف قد تقول عكس ذلك، فمن المعروف عن أردوغان قدرته على "استخراج الأرانب الانتخابية من القبعة" قبيل أي استحقاق داهم.
هذه الاندفاعة التركية في سوريا مؤخراً لاقت أصداءً إيجابية لها في السعودية، والتي تبدو أكثر حماسة لأي دور تركي يوقف الشهية الإيرانية ويلجمها، وهذه الحماسة ترجمتها السعودية بوديعة مالية بقيمة 5 مليارات دولار كهدية سعودية على أعتاب انتخاباتٍ عنوان المواجهة الرئيسية فيها هو الاقتصاد المتعثر والتضخم المالي، وفي الوقت نفسه بمثابة التأييد السعودي لخطوات التمدد الجغرافي التركي في مناطق سورية متعددة ومتوقعة.
بالمقابل تستمر الشراكة التركية مع قطر عبر سعي الدوحة لترتيب الأجواء بين أنقرة والقاهرة عبر جمع أردوغان والسيسي لمدة 45 دقيقة في استاد البيت، واستضافتها للقاءات استخبارية تركية مصرية آخرها لقاء هاكان فيدان وعباس كامل، واستتبعت بدعم مالي قطري لتركيا بقيمة 10 مليارات دولار قد تنعش الاقتصاد التركي لمدة ليست قصيرة.
هذه الحماسة القطرية امتدت للبنان عبر الدور المستمر للدوحة في ملفات عاجلة، كالدعم المستمر للقطاعات الحيوية اللبنانية، كالصحة والتعليم والأمن والبيئة، معطوفة على جهود باتت واضحة لتدعيم الاستقرار والذهاب لمرحلة انتقالية في لبنان عنوانها الأبرز الإتيان برئيس للجمهورية يعيد التوازن مع حزب الله، ويرتب لمرحلة تعافٍ مالي تتيح لكل الأطراف العربية دعم مسار الإصلاح بمنح وقروض، وهذا ما يفسر السعي القطري مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لانتخاب قائد الجيش جوزيف عون والقبول به دون عرقلة.
لذا، وانطلاقاً من كل هذه المعطيات الواردة، فإنه من رصد مسار الأحداث الإقليمية لفهم طبيعة المسار الذي سيذهب لبنان تجاهه، ويمكن القول إن أطرافاً لبنانية غير آبهة حتى اللحظة بطبيعة التحولات الإقليمية الجارية في منطقة الشرق الأوسط، عبر التعامل مع الاستحقاق الرئاسي بمعزل عن هذه التحولات التي تشارك قوى إقليمية ودولية في صياغتها.
مع الانتباه بشكل أساسي أن الحراك الذي تشهده إيران ليس تفصيلياً، ولن يسبب تغييراً في جوهر الموقف الإيراني من ملفات لبنان واليمن والعراق إما تسوية أو تشدداً، مع التخوف الجاري من أن ينعكس انتخاب حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة على مسرح الأحداث في الداخل الفلسطيني ولبنان وباقي البقع الجغرافية المرتبطة بإيران.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.