يقال إن الممرضين هم ملائكة الرحمة، ولكن ماذا لو كانوا في الحقيقة ملائكة للموت؟ بالتأكيد الإنسان الذي يعمل كممرض يرتبط بالعديد من القيود الأخلاقية، سواء كانت دينية أو فطرية أو قانونية.
لكن ماذا سيحدث في رأيك إن قرر أحدهم التجرد من كل تلك القيود؟ ومع بعض التبريرات الأخلاقية التي تبرر فكاكه من جماعة البشر، إلى ماذا تتوقع أن يتحول؟
ملاك للموت أو وحش أبشع يتربص بضحاياه؟
بعد إصدار شبكة نتفليكس فيلمها الوثائقي الأخير Capturing The Killer Nurse سنشاهد بين دقائقه المتتالية كيف يمكن لإنسان أن يتجرد من كل شيء يعرفه كإنسان؛ ليتحول إلى وحش مرعب، و"تشارلز كولين" بطل الفيلم هو ذلك الوحش.
وُلد تشارلز كولين في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1960 في نيوجيرسي، كانت عائلته تنتمي للطبقة العاملة الكاثوليكية؛ حيث عمل والده كسائق شاحنة قبل أن يتوفى، بينما تشارلز لا يزال في شهره السابع.
كبر تشارلز وهو الابن الأصغر بين ثمانية إخوة؛ لذا دائماً ما كان يتعرض للتنمر، سواء من أقرانه وسط محيطه أو من أصدقاء إخوته، ويمكن ملاحظة أن التنمر كان من المؤثرات الرئيسية في شخصية تشارلز بالطبع.
فقد وصف طفولته سابقا بأنها "بائسة" وفي عامه التاسع قام بمحاولة انتحاره الفاشلة الأولى عن طريق ابتلاع بعض المواد الكيميائية.
حين وصل لمنتصف طريق المدرسة الثانوية، توفيت والدته في حادث سير، وكانت تلك العلامة الفارقة في شخصية تشارلز، حيث وصف موت والدته بأنه "حدث مدمر" تسبب في تفاقم حالته النفسية بشكل مأساوي؛ مما دفعه للمزيد من محاولات الانتحار.
بعد وفاة والدته قرر الالتحاق بالبحرية الأمريكية، لكنه عجز عن الاندماج وسط نمط الحياة العسكري بسبب التنمر المستمر من أقرانه مجدداً، ليحاول الانتحار من جديد متسبباً في إعفائه من الخدمة العسكرية عام 1984 لأسباب غير معروفة.
بمجرد أن ترك تشارلز البحرية التحق بمدرسة التمريض، تخرج عام 1986 وبدأ العمل كممرض في مركز القديس بيرنابا في ليفينجستون، ليقرر الزواج من أدريانا بام عام 1987.
في عام 1993، حررت زوجته ضده محضر اعتداء بعد أن ضاقت ذرعاً بتصرفاته الغريبة، فقد كان يعتدي على الحيوانات الأليفة الخاصة بطفلتيه، وكان يحرق كتبهما الدراسية، وعلى حسب شهادة زوجته، ترك الطفلتين مع جليسة أطفال لأسبوع كامل، بالطبع أنكر تشارلز كل هذه الاتهامات، ولكن زوجته السابقة الأم لم تتوقف عن الادعاء بكونه مريضاً عقلياً.
تشارلز وبداية جرائم القتل:
أولى جرائم تشارلز كانت في مركز القديس "بيرنابا" في 11 يونيو/حزيران عام 1988 حين حقن أحد المرضى بجرعة قاتلة من دواء مجهول، اعترف تشارلز كذلك خلال التحقيقات بأنه قتل عدة مرضى في المركز الطبي، منهم مريض بالإيدز، والذي مات بعد حقنه بجرعة قاتلة من الأنسولين.
ترك تشارلز المركز الطبي عام 1992 حينما بدأ طاقم المستشفى في التحقيق خلف حوادث الموت التي تسبب بها، ليلتحق بعدها بمستشفى وارين في فيليسبيرغ.
وهناك قتل تشارلز ثلاث مريضات عن طريق جرعات زائدة من دواء القلب ديوجسين، ولكن هذه المرة شاهدته إحدى المريضات بينما يحقنها بالموت، ورغم شكواها بشأنه لعائلتها وطاقم المستشفى، لم يعرها أحدهم اهتماماً حتى توفيت في النهاية.
خلال عام 1993، ادعى كولين أنه أراد ترك التمريض للتوقف عن جرائمه، ولكن بعد الطلاق من زوجته طالبته المحكمة بأموال رعاية طفلتيه، لذا كان عليه الاستمرار بالعمل.
في ذات السنة، أخذ كولين إجازة شهرين من العمل ليلتحق بمركز رعاية نفسي للعلاج من الاكتئاب، لكن محاولات علاجه لم تجدِ نفعاً، فقد حاول الانتحار مرتين في ذات السنة، ولكنه فشل كالعادة.
في سبتمبر/أيلول، قام كولين بارتكاب إحدى أبشع جرائمه حين قتل مريضة السرطان ذات الواحد وتسعين عاماً، شاهدته المريضة وهو يحقنها بالدواء القاتل، وقالت لابنها الذي كان يرافقها طوال فترة بقائها في المستشفى، واجه الابن طاقم المستشفى بعد وفاة والدته بادعائها بأن ممرضاِ قام بقتلها.
لكن المستشفى تهرب من الاتهام عن طريق اختبار كذب فاشل عرضت له كولين، وهكذا استمر كولين بالعمل كأن شيئاً لم يحدث حتى ربيع العام التالي.
على مدار السنوات التالية، انتقل كولين من مستشفى إلى آخر، ومن مركز علاجي إلى آخر، تاركاً خلفه أثراً من الدماء و الجثث حتى تم القبض عليه سنة 2003.
الدافع وراء أفعال الممرض القاتل:
تم اعتقال كولين في 12 ديسمبر/كانون الأول عام 2003، كان بالفعل قد مر شهور على بدء التحقيق حول جرائمه من قبل المحققين "دان بالدوين" و"تيم براون" بسبب جريمة قتله للقس فلوريان جال المريض في مستشفى سامرسيت آخر مشفى كان يعمل به كولين.
خلال التحقيقات، اعترف كولين بقتل 40 مريضاً، هؤلاء فقط كانوا ما استطاع تذكرهم خلال مسيرته المهنية، والتي استمرت ستة عشر عاماً، ومع ذلك يُعتقد أنه قتل ما يوازي 300 مريض.
في عام 2006 تم الحكم على كولين بأحد عشر حكماً بالسجن المؤبد، ولا يمكن إطلاق سراحه حتى عام 2388، وحالياً يتم الاحتفاظ به تحت الحراسة المشددة في سجن ولاية نيوجيرسي، ولكن ما الدافع وراء جرائمه يا ترى؟
خلال التحقيقات صرّح كولين بأنه قتل المرضى؛ لأنه لم يرغب برؤيتهم يعانون، وبأنه فعل ما فعله بدافع الرحمة كي يرحمهم من معاناة المرض، وكذلك من معاناة التعرض لمعاملة الممرضين غير الآدمية لهم.
بالتالي كان يقوم بقتلهم عن طريق جرعات قاتلة من الأدوية؛ كي ينهي عذابهم في هذا العالم، ولكن هناك بعض المشاكل المحيطة بهذا الدافع الذي قد يبدو بطولياً للوهلة الأولى.
فكما ترون، لم يكن كل المرضى الذين قتلهم كولين يعانون من عذاب اقتراب موتهم، كثيرون منهم كانوا على طريق التعافي بالفعل، وهناك بعضهم كانوا على وشك مغادرة المشفى بعد تعافيهم قبل أن يقرر كولين قتلهم رحمة منه.
المشكلة الأخرى التي بالتأكيد كان كولين يغض الطرف عنها، هو أن جرعاته القاتلة من الأدوية لم تكن تنهي معاناة المرضى، بل على العكس تماماً كانت تزيد معاناتهم بشكل كابوسي وتمنحهم طريقة بشعة مؤلمة ومرعبة للموت.
وهذا بالتأكيد يوضح لك ما هي عقلية القاتل المتسلسل الذي نقف أمام قصته اليوم، فكولين هو بالفعل أحد أشهر وأبشع القتلة المتسلسلين في تاريخ الولايات المتحدة، ومع ذلك هل يدرك هو هذه الحقيقة؟ أم أنه يخدع نفسه بدوافعه البريئة الوهمية؟
فيلم Capturing The Killer Nurse:
في الحقيقة، تمتلك شبكة نتفليكس القدرة على صناعة وثائقيات مبهرة، وهذا الفيلم مثال على ذلك، فالفيلم يتتبع التحقيقات التي أدت للقبض على تشارلز كولين.
يوضح كذلك خلال المقابلات مع العديد من الشخصيات التي ساعدت في الإمساك به، كيف تآمرت المؤسسات الصحية للتستر حول جرائم كولين، وذلك فقط لمنع الآثار الجانبية لجرائمه التي قد تدمر سمعة تلك المؤسسات.
يعرض الفيلم كذلك كيف تعاونت إحدى أقرب الشخصيات من كولين مع المحققين كي يتم القبض عليه، رغم علمها بأنها ستتعرض لهجوم بلا رحمة من المؤسسات الطبية، مما يعطي درساً واضحاً حول البوصلة الأخلاقية التي يجب أن يتبعها كل إنسان بطبيعته.
بالتأكيد لم يكن الفيلم رائعاً فقط من وجهة نظري لتتبعه لذلك السفاح، بل كذلك كان مرعباً لكونه يوضح كيف يتمكن أفراد متوحشون ككولين من قتل الضعفاء المرضى بلا حول ولا قوة بكل سهولة ممكنة، وكيف يمكن أن يؤدي النظام الرأسمالي المهتم بالربح فقط للتستر على مثل هذه الجرائم.
مما يدفعك للتساؤل: كم تشارلز كولين لا يزال يعيث فساداً بيننا حتى الآن ولا نعلم عنه شيئاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.