المتتبع لزيارات المسؤولين الأمريكيين للمنطقة العربية يجد أن أكثر مسؤول يزورها ليس وزير الخارجية، مثلما كان الوضع في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، ولا مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ولا وزير الدفاع، إنما هو مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، إذ نجده في سبتمبر/أيلول من العام الماضي يزور القاهرة لمناقشة ملفات حقوق الإنسان وسد النهضة والوضع في ليبيا، ثم يزور إسرائيل لمناقشة الملف الإيراني، كما استقبل في مايو/أيار من العام الجاري في واشنطن نائب وزير الدفاع السعودي آنذاك، الأمير خالد بن سلمان، لمناقشة ملف حرب اليمن، ثم زار سوليفان القاهرة مجدداً في مايو/أيار 2022 لبحث تداعيات الحرب في أوكرانيا على احتياجات مصر من الأمن والغذاء والوقود، ثم حضر قمة المناخ في شرم الشيخ في نوفمبر/تشرين الثاني بعد أن زار السعودية في سبتمبر/أيلول سراً لمناقشة ملف إمدادات النفط، وذلك بجوار أنشطته الدولية، حيث زار أوكرانيا سراً منذ أيام؛ لمناقشة مستجدات الحرب مع الرئيس زيلنسكي، ومدى إمكانية بدء مفاوضات مع الجانب الروسي.
وفي ظل ذلك النشاط المحموم لسوليفان سأستعرض دور مجلس الأمن القومي في صنع السياسة الأمريكية، واختصاصاته، ومكوناته، ودوافع تأسيسه بالاعتماد على المعلومات المتوافرة عنه بالأخص في دراسة أصدرها مركز أبحاث الكونغرس خلال العام الجاري.
دوافع تأسيس مجلس الأمن القومي الأمريكي
مع انخراط واشنطن في الحرب العالمية الأولى، واتساع نطاق القضايا التي تتعاطى معها، تأسس عام 1916 "مجلس الدفاع الوطني" بعضوية وزراء الحرب والبحرية والداخلية والزراعة والتجارة والعمل بهدف تعبئة الجهود الاقتصادية خلف الجهود العسكرية، وتقديم المشورة للرئيس، ثم حُل المجلس عام 1921، وظل الرئيس الأمريكي هو المنسق الوحيد للأمن القومي حتى عام 1938 الذي شهد تصاعد التوترات مع ألمانيا، ففي تلك الآونة بدأ تأسيس لجان لتنسيق الجهود بين المؤسسات الأمريكية في الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لكن عملياً قدّمت تلك اللجان المشورة لمساعدي ومستشاري الرئيس دون الوصول له مباشرة.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعيدت هيكلة جهاز الأمن القومي بأكمله بهدف النهوض بالمهام الجديدة المرتبطة بتحول أمريكا إلى أبرز قوة عالمية، وتصاعد الصراع مع الاتحاد السوفييتي، وضرورة اتخاذ قرارات استراتيجية بشأن مستقبل ألمانيا واليابان، فصدر قانون الأمن القومي لعام 1947 الذي تضمن تأسيس مجلس الأمن القومي كهيئة تنسيقية بين الأجهزة الأمريكية لتقديم المشورة للرئيس، فضلاً عن تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة الدفاع التي ضمت الجيش والقوات الجوية والبحرية بدلاً من وجود وزارات سابقاً لكل منها.
مكونات مجلس الأمن القومي الأمريكي
صُمم مجلس الأمن القومي بشكل مرن يتيح للرئيس اختيار الهيكل الملائم لبناء هيئة استشارية تناسب أسلوبه في صنع القرار والتحديات الأمنية التي يواجهها، وهو ما ارتبط بعمل معظم موظفي مجلس الأمن القومي بمن فيهم المستشار داخل مبنى البيت الأبيض، وعدم خضوعهم عند التعيين في وظائفهم لجلسات تأكيد من مجلس الشيوخ.
ولذا نجد أن عدد موظفي مجلس الأمن القومي يتغير من إدارة رئاسية إلى أخرى، ففي أوائل التسعينيات خلال إدارة جورج بوش الأب بلغ عدد الموظفين حوالي 50 شخصاً، بينما يتألف مجلس الأمن القومي حالياً في عهد بايدن من عدد يزيد على 300 موظف. ويدور جدل بين الخبراء الأمريكيين حول العدد الأنسب من موظفي مجلس الأمن القومي هل ينبغي أن يكون محدوداً، بحيث يركزون على مسؤولياتهم الأساسية والاستراتيجية أم الأفضل الاتساع للانخراط في الإدارة التفصيلية لأنشطة المؤسسات المعنية بالأمن القومي، وهي مفاضلة عادة ما يحسمها عملياً الرئيس الأمريكي عبر اختيار الشكل الذي يفضله.
يتغير تشكيل مجلس الأمن القومي أيضاً من إدارة لأخرى، ففي عهد الرئيس ريغان (1981-1989) على سبيل المثال ضم المجلس الرئيس ونائبه ووزيري الخارجية والدفاع، بينما حضر مدير السي آي إيه ورئيس هيئة الأركان المشتركة بصفتهما كمستشارين، وفي ظل الصراع حول موارد الطاقة يضم المجلس حالياً بحوار ما سبق وزيري الطاقة والخزانة، فضلاً عن مدير الاستخبارات الوطنية الذي يشرف على عمل كل أجهزة الاستخبارات كما يحضر أعضاء آخرون بانتظام مثل رئيس هيئة الأركان المشتركة بالقوات المسلحة، وممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ومدير مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا، ومدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية.
مهام مجلس الأمن القومي ومدى تأثيره
تستند عملية صنع سياسات الأمن القومي الناجحة إلى التحليل الدقيق والشامل للوضع الدولي والإقليمي والمحلي، بما في ذلك العوامل الاقتصادية والاستخباراتية والعسكرية الدبلوماسية، وتحديد الأولويات، وتقديم التوصيات المناسبة، وهو الدور الذي ينهض به مجلس الأمن القومي الأمريكي لصالح الرئيس مباشرة، كما يعمل المجلس على التنسيق بشكل فعال بين سياسات ومهام الإدارات والوكالات الحكومية التي تعمل في مجالات الأمن القومي، أما وكالة المخابرات المركزية، فتقدم المعلومات والتحليلات اللازمة لمجلس الأمن القومي حتى يتمكن من مواكبة الأحداث.
يزداد تأثير مجلس الأمن القومي بحسب العلاقة التي تجمع بين رئيس موظفيه الذي يُعرف بمستشار الأمن القومي وبين الرئيس، فعندما تولى كيسنجر منصب المستشار (1969-1975) نجح في انتزاع السيطرة على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية من وزير الخارجية روجرز، وهو ما دفع الرئيس نيكسون لتعيينه وزيراً للخارجية عام 1973 ليجمع كيسنجر بذلك بين منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية لمدة 3 سنوات، وهو وضع تكرر نسبياً مع مستشار الأمن القومي بريجنسكي (1977-1981) الذي تمكن عبر تقديم توصيات رصينة في وقت سريع بالتزامن مع استيعابه للأسلوب الذي يفضله الرئيس كارتر، من تهميش وزير الخارجية سايروس فانس، بينما نجد في حالات أخرى مستشارين للأمن القومي تعرّضوا للتهميش مثل روبرت أوبراين (2019- 2021) الذي خفت تأثيره بجوار وزير الخارجية بومبيو.
أما مستشار الأمن القومي الحالي، جيك سوليفان، فهو دبلوماسي مخضرم، إذ عمل في إدارة أوباما كنائب رئيس موظفي وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ومديراً لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية، وأشرف رفقة نائب وزير الخارجية آنذاك ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الحالي ويليام بيرنز على إطلاق قناة تواصل سرية مع إيران عبر سلطنة عمان، توّجت بالوصول لاتفاق نووي في عام 2015.
ويقود سوليفان حالياً حالة من الاستقرار في مجلس الأمن القومي بعد تولي 5 أشخاص لمنصب المستشار في عهد ترامب (مايكل فلين، وهيربرت ماكماستر، وجون بولتون، وتشارلز كوبرمان، وروبرت أوبراين)، وهي دورة تعاقب سريعة للغاية تظهر بشكل أوضح عند معرفة أن سوليفان هو المستشار رقم 29 في تاريخ مؤسسة الأمن القومي منذ ظهور ذلك المنصب عام 1953.
ويبدو أن سوليفان أقرب لنموذج كيسنجر وبريجنسكي منه لنموذج أوبراين، فهو منخرط في العديد من الملفات الدولية الحساسة، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، لذا فإن زياراته إلى الدول العربية مهمة، حيث تشير لأولويات السياسة الأمريكية بالمنطقة.
وأخيراً فإن مجلس الأمن القومي الأمريكي يمثل نموذجاً للعمل المؤسسي الذي يقدّم خلاصات وتوصيات رصينة للرئيس، وهو ما تقابله حالة من الذاتية في صنع القرارات في منطقتنا تنتج عنها غالباً قرارات كارثية غير مدروسة، وهو ما يشجع على دراسة تلك المؤسسة الأمريكية بعمق للاستفادة من نموذجها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.