شنقوه حياً..! قصة الحارس الذي قتله البرازيليون لأنه لم يصد هدفاً في نهائي كأس العالم

عربي بوست
تم النشر: 2022/11/25 الساعة 12:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/25 الساعة 12:38 بتوقيت غرينتش
الحارس البرازيلي مواسير باربوزا / تويتر

يولد الانتصار وله ألف أب، وتولد الهزيمة يتيمة، لكن البرازيليين نسبوا خسارة نهائي مونديال 1950، في عقر الدار أمام أوروغواي، إلى متهم وحيد، لا بل إلى ضحية وحيدة هو مواسير باربوزا ناسيمنتو، حارس العرين.

لقد شنقوه حياً، ثم رجموه بالنحس إلى آخر يوم في حياته، حتى قيل قُتل الأوروغواياني شيغيا السيليساو بهدف مدمر في موقعة الماراكانا، أما البرازيليون فقتلوا باربوزا حياً بين خشبات المرمى، ثم دفنوه منبوذاً، على مدار نصف قرن، في شوارع ريو دي جانيرو.

1/ الغرور يتوّج البرازيل بطلاً للمونديال قبل بداية النهائي

في العام 1950 تهيأت البرازيل لاحتضان كأس العالم، وشيدت ملعبها العملاق الماراكانا، كي يكون صرحها العظيم للتتويج بأول لقب. أقيمت البطولة بأربع مجموعات، صعد منها للدور النهائي كل من البرازيل وأوروغواي والسويد وإسبانيا، فتواجهت الفرق في مجموعة واحدة ضمن بطولة مصغّرة.

 ومن مقابلتين ضد السويد وإسبانيا فازت أوروغواي بواحدة، وتعادلت في أخرى؛ لتحصد 3 نقاط، فيما فازت البرازيل على إسبانيا والسويد جامعة 4 نقاط، ليكون اللقاء الثالث حاسماً ضد أوروغواي المتأخر بنقطة واحدة وثمينة.

في 16 يوليو/تموز 1950، احتشد أكثر من 173.000 متفرج في الماراكانا للهتاف والغناء والاحتفال المسبق بالتتويج، تدفعهم إلى ذلك شعبوية الإعلام الذي ظن أن أوروغواي سيكون فطوراً سهلاً، خاصة أن التشكيلة البرازيلية تغدّت على السويد بسباعية كاملة، وتعشّت على الإسبان بسداسية.

كان كل شيء مرتباً في الأذهان لتفوز البرازيل حتى أن الصحيفة البرازيلية "كاريوكا دولموندو" نشرت صبيحة المباراة، وتحت صورة الفريق الوطني عنواناً بالبنط العريض "هذا هو بطل العالم"، لا بل إن الغرور العام التهم في طريقه رئيس الاتحاد الدولي، جول ريمي، لدرجة أنه حضّر خطاب التتويج باللغة البرتغالية لغة البرازيليين، لا باللغة الإسبانية لغة أوروغواي، أما اتحاد الكرة البرازيلي فصك ميداليات ذهبية، بأسماء أبطال العالم، كي يوزعها على لاعبيه فور نهاية الصدام. 

كما كان منتظراً سيطر لاعبو البرازيل على مجريات الشوط الأول، مع لحظات خوف مريعة، حينما أنقذهم حارسهم باربوزا من كرة خطيرة، صفق لها الجمهور قبل أن يضع يده على قلبه من كرة ارتطمت بالقائم.

كأس العالم
مواسير باربوزا

 في أول أنفاس الشوط الثاني جاء الفرج بهدف في الدقيقة الثانية والخمسين بقدم فراشيا كاردوسو، لينفجر الملعب الذي بكر في الاحتفال والرقص وترديد الأهازيج، غير أن البرازيليين الذين استهانوا بالخصم، وسبقوا الفرح بليلة، لم يكونوا يدركون أن أوروغواي فضل التكتل الدفاعي؛ ليصبح أكثر طراوة بدنية إذ خاض 3 مباريات فقط، فقد جاء من الدور الأول بمباراة وحيدة فاز بها ضد بوليفيا بعد انسحاب فرنسا، فيما لعب البرازيل 5 مواجهات كاملة في الدورين.

لجأ لاعبو الأزرق السماوي إلى امتصاص حماسة منتخب السيليساو وثورة الجماهير، فوفروا مخزونهم اللياقي للربع ساعة الأخير، مستنفرين بحيلة تحفيزية اهتدى لها مدرب الفريق، ستعرف بعد نهاية المباراة، وكانت تلك كلمة السر في استنهاض الهمم وفرض التحدي لكسر كبرياء وغرور كل من سوّلت له نفسه "بيع فروة الدب قبل اصطياده".

2/ جنازة في عرس: سكتات قلبية، انتحارات وحداد وطني عام  

في الدقيقة السادسة والستين، سيصمت الجمهور البرازيلي لعدة دقائق عندما تحرر غيغيا على الرواق الأيمن، مقدماً عرضية لزميله سيكافينو فجلد الأخير المرمى البرازيلي بقذيفة، لم يستطع الحارس باربوزا أن يفعل لها شيئاً: إنه هدف التعادل.

 نزلت معنويات الجمهور إلى الحضيض، بعد المغالاة في الخيلاء صاروا فريسة للخوف، أما أرجل لاعبيهم فكانت من شدة صمت المدرجات ترتجف.

 كان التعادل يكفي البرازيل لرفع الكأس، لكن الصدمة ستقع قبل 11 دقيقة من تلك اللحظة الحلم، سيبرز الكابوس ماثلاً أمامهم عبر اللاعب الأوروغواياني غيغيا، وهو ينسل على اليمين بلا رقابة، كان يجري مثل ثور هائج حتى صار في منطقة الستة أمتار، وقف باربوزا يراقبه ظناً أنه سيمرر مثلما فعل ذلك في الهدف الأول، وتعزز يقينه حين رآه يبحث بعينيه عن سكيافينو، فتثبت على قدمه اليمنى للانقضاض لقطع التمريرة، غير أن الثور فضّل، وقد لمح زاوية الحارس المفتوحة، أن  يركل الكرة مباشرة، ارتمى باربوزا لامساً الكرة البنية بقفازه لكن ارتطامها بالأرض ضاعف سرعتها وقوتها، وقد خال لأول وهلة أنه أخرجها غير أن الصمت المريب حول معبد الماراكانا إلى قبر هوى عليه وعلى الجميع، لقد سجلت أوروغواي الهدف الثاني، وعبثاً حاول البرازيليون التعديل، أنهت صفارة الحكم المباراة وسقط الحلم، فتحول العرس الكبير إلى مأتم لم يشهد له تاريخ الكرة مثيلاً.

حلّت الهيستريا بالجمهور، توفي عدد منهم بسكتات قلبية، رمى أحدهم نفسه من المدرج العلوي منتحراً في الملعب، وتبعه آخرون في منازلهم، وأعلن معلق برازيلي شهير اعتزال التعليق الرياضي نهائياً، ثم قرر اتحاد اللعبة منذ ذلك اليوم عدم اللعب، تطيراً، باللون الأبيض.

 وفيما راح اللاعبون المنهزمون يبكون ويقررون الاعتزال الواحد تلو الآخر، كان الأورغويانيون يرقصون ويغنون، ويشكرون الطاقم الفني الذي اهتدى إلى تحفيزهم بأكثر الطرق استفزازاً، بأن علق لهم، مقال جريدة لوموندو الذي أعلن البرازيل بطلاً قبل البداية، في غرف تبديل الملابس، وكان ذلك كفيلاً بأن يجعل منهم وحوشاً تتحين الانتقام، لا بل إن اللاعب غيغيا سيرد بمقولة خالدة "ثلاثة أشخاص أسكتوا الماراكانا: البابا، والمغني الأمريكي فرانك سيناترا، وأنا غيغيا لاعب أوروغواي".

كأس العالم
صورة هدف غيغيا القاتل في مرمى باربوزا

عجز البرازيليون عن تفسير النتيجة التي لم يحسمها تفوق أصحاب الأرض، بل توفيق رب السماء، لقد قال باربوزا حارس المرمى لاحقاً "لو أننا عدنا لنلعب ضد أوروغواي 10 مباريات، فإننا سنفوز عليه 11 مرة". أما الجمهور الذي سيعيش أسوأ ذكرى كروية، فسمى الحادثة "الماراكانازو"، صدمة الماراكانا، ثم بحثوا عن كبش الفداء في تلك المحرقة، فلم يجدوا غير الحارس الذي لف حول رقبته حبل المسؤولية عن دخول الهدف وضياع اللقب.

3/ تعرض للعنصرية، عاش العزلة، ونُفي من المنتخب  

تعرض باربوزا إلى حملة شعواء بسبب ذلك الهدف اللعين، يقول في إحدى حواراته: "كان مقرراً أن يقيم جيراني عشاء احتفالياً كبيراً بعد الفوز بالكأس، لكني عندما عدت شعرت بالحزن، وجدت الطعام كما هو فوق الطاولة، لم يشأ أحد أن يتناوله معي حتى الكلاب المتشردة عافت أن تأكله".

طالته موجات من الشتم والسباب في الشوارع، فلزم بيته لا يغادره لأيام وأسابيع، أما في القطار فسمع شخصاً يحدّث رفيقه وهو يطالع مقالات الصحافة: "باربوزا اللعين، سأقتله لو صادفته في الطريق".

كأس العالم
باربوزا

ولأنه كأن أسود البشرة سيغدو ضحية العنصرية، لقد سمعهم يقولون مثلاً: إن الزنوج كائنات هشة، ليست لها القوة الذهنية للعب مباراة نهائية في حجم كأس العالم. فجأة نسي البرازيليون أنفسهم أن باربوزا نال لقب أحسن حارس في المونديال الملعون. 

لأيام أخرى سيهجره النوم وهو يرى أن الكل تكالب ضده، فأصيب بأزمة نفسية عميقة واكتئاب حاد، وفكر غير مرة في الانتحار، الذي لاحت هواجسه لحظة الهدف العصيب: "في تلك اللحظة رغبت في الاختفاء في فوهة بركان. شعرت كما لو أن الملعب كان يهوي على رأسي. لم أكن قادراً على النوم لليالٍ طويلة، كان الصمت الذي أعقب الهدف مؤلماً للغاية. نعم ذلك الصمت شديد الألم". 

رفض حلاق بمدينة بورتو أليغري أن يحلق له قبل أن يطرده من المحل، فدافع عن نفسه مرة ومرات، مردداً "لست المسؤول وحدي، كنا أحد عشر لاعباً في الملعب".

ودونما جدوى سيتم الاستغناء عنه تدريجياً من صفوف المنتخب الوطني، إذ لم يلعب سوى مباراة وحيدة عام 1953، ومع أن مساره الكروي استمر مع فرق محلية لسنوات أخرى، نال فيها بطولات وطنية، قبل أن يعتزل اللعبة عام 1962 بعد إصابة خطرة مع فريق مغمور، فإن مأساة هدف غيغيا سترافقه إلى الأبد. 

في العام 1970 ستعود تلك الذكرى المأساوية لتحاصره من جديد، يروي بنفسه ألمه: "كنت أعمل في متجر، فتقدمت مني سيدة لاقتناء مصباح كهربائي فانزويت إلى الخلف لأتكفل بطلبها، غير أنها نادت ابنها الذي كان في سيارتها المركونة قبالة المحل، عندما دخل قالت له وهي تشير بأصبعها خلف ظهري، أرأيت ذلك الشخص. هذا هو الحارس الذي أبكى الشعب البرازيلي في عام الخمسين".

بسبب باربوزا الأسود، مرت البرازيل بسنوات لم يكن سهلاً لأي أسود أو خلاسي أن يحوز مكانة في الفريق، فاللاعب الموهوب غارينشا لم يقحم كثيراً في مونديال 1958، لكن الأسطورة بيليه سيحطم تلك المعاملة العنصرية إلى الأبد.

 4/ أحرق خشبات المرمى وزغالو طرده من معسكر السيليساو 

رفضت الهيئات الكروية منحه أية وظيفة محترمة، أو منصباً تدريبياً يليق بمساره الطويل، فاشتغل في مسبح مجمع ملعب الماراكانا، ثم إنه كان ينزل بين فترة وأخرى لمواجهة خشبات المرمى الذي دفنه البرازيليون حياً بينها، وما من أحد توقع ما كان ينوي فعله حتى جاءته فرصة تجديد الملعب عام 1963، وكما لو أنه نوى أن ينتهي من الشؤم الذي لازمه طلب من إدارة الملعب منحه خشبات المرمى، وقد كان سعيداً بأن أعد من تلك الأعواد التي أحرقها ناراً وشوى فوقها لحم الشوهاسكو في جلسة سمر مع الأصدقاء.       

اجتهد باربوزا في طي مأساته، ثم أنهكته تكاليف علاج زوجته المريضة بالسرطان، حتى بلغ عتبات الفقر المدقع، لكن لا أحد في البرازيل اجتهد للعفو عنه ولو بعد عمر طويل.

كأس العالم
باربوزا حارس البرازيل

 في العام 1993 قام الرئيس السابق للاتحاد البرازيلي لكرة القدم، ريكاردو تيكسيرا ، الذي سبق له أن وصفه بـ"القط الأسود"، وتعني "رجل الشؤم"، بمنعه من التعليق على إحدى مباريات المونديال و بإجراء حوار مع الحارس طافاريل، أما المدرب الشهير ماريو زاغالو، فقام  بطرده من معسكر الفريق البرازيلي المتأهب للمشاركة في مونديال 94، مانعاً إياه من زيارة ودية كان يبتغي عبرها رفع المعنويات، فخرج محبطاً مخلفاً وراءه جملته الشهيرة لوسائل الإعلام المرئية "ثلاثون عاماً هي أقصى عقوبة لجريمة في البرازيل، أما أنا  فأدنت من طرف الجميع بعقوبة 50 عاماً نافذاً عن جريمة لم أرتكبها".

في العام 1996 توفيت زوجته كولتيلد، فقرر أن يهجر العاصمة ريو ليستقر في منزل متواضع بمدينة سيداد أوشيان، على ساحل ساو باولو، حيث استأجر شقة بغرفة نوم واحدة وصالة، ثم يموت هناك ربيع العام 2000، بطالاً، منسياً تحت خط الفقر، ودون أن يتعرف عليه أحد.

***

رحل "الحارس المنبوذ" تاركاً مأساته للتاريخ، فقد ألف عنه الكاتب روبرتو مويلارت مؤلفاً عنوانه "باربوزا: هدف عمره خمسون عاماً"، أما المغني الأوروغواياني الشهير "طاباراز كاردوسو"، فقد خلدّه بمرثية حزينة تحمل اسمه ويقول مقطعها: "باربوزا الرجل الذي مات مرتين".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد