الغول في صحاري العرب.. كائن أسطوري أم شيطان يغوي الناس ليلا بأضوائه؟!

عربي بوست
تم النشر: 2022/11/25 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/25 الساعة 11:00 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية / iStock

يكثر في تاريخ العرب قبل الإسلام وصفا مدهشا ومثيرا للتأمل لما يجده العربي في الصحاري والفيافي الواسعة؛ والعربي كما نعلمُ سفّار بطبعه، مُستكشف بحسّه، يحب البيداء كما يُحب أهل الحضر بيوتهم وقصورهم وزروعهم، تراه فوق الجبال تارة يتطلع إلى أفق المدى، وأخرى في وهدة من الأرض يندب الأطلال، ويقتفي الأثر، إذا كان بلا نديم فنديمه حفيف الريح، وصليل الصوارم، وصهيل الخيل، ونعيق البوم، وإذا لم يجد أنيسًا كان الخيال أنيسه، والتطواف في الماضي تسليته.

ومع هذا وذاك وجدناه يتناول الشياطين والجنّ، فيعتقد في وجودهم، بل إن بعضهم اتخذهم صُحبة ونُدمة، وبعضهم الآخر ممن بذَّ أقرانه، وفاق أصحابه، وُصف بالعبقريّ نسبة إلى وادي عبقر؛ وهو أشهر أودية الجنّ في الصحاري العربية الشاسعة؛ بيد أن وصفهم للغول مثير للفضول، باعث للتساؤل، محرّك للعزمات لكي تقتفي أثر هذه الحكايات، وصدقها، لا سيما وقد وجدت أدلة من الإسلام تؤيد وُجود هذه الغول، وتنصح الناس بما يجب أن يتخذوه من وسيلة لدرء خطرها.

ومن حسن حظنا أننا نجد مادة متوفرة في مصنفات التراث العربي تتتبع العربي القديم في شعره ونثره لهذه الغيلان، وعلاماتها، وأنواعها، ومادة هلاكها، وسبب إطلاقه هذا الاسم عليها، وكان الأديب الشهير، والمفكر الأريب أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ/869م) ممن اهتموا باقتفاء تراث العرب قبل الإسلام في العديد من مؤلفاته، وأشهرها كتاب "الحيوان" الذي يقف مع هذه الظاهرة بأناة ونقد.

إن الغول من أشهر المستحيلات الثلاثة عند العرب؛ وهي الغول والعنقاء والخِلّ الوفي، لكن إذا كان الغول من المستحيلات حقًا؛ فإننا نجد مادّة كبيرة عنه في عصر الجاهلية بل وفي عصر النبوة أيضًا؛ فهل الغول كائن أسطوري تخيلته الأساطير والميثولوجيا العربية القديمة في بيئة اشتُهرت بالقصّ والحكي والخيال الواسع؟ أم هو كائن حقيقي رآه الناسُ واختلطوا به، وأدركوا حقيقته بل وخطورته عليهم؟!

تغوّل الغيلان!

يرى علماء اللغة أن من معاني "الغول" التلون، والظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى، وأما ذكرها فيسمى "قطربا"، ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتمورا"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب. وذُكر في وصف غدرها بالإنسان إنها إذا أرادت أن تضل إنسانا أوقدت له نارًا، فيقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا، وإن خِلْقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار.
وذكروا أن الغول اسم لكل شيء من الجن يعرض للسفّار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى. وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول:

فما تدوم على حالٍ تكونُ بها … كما تلونُ في أثوابها الغول

وفي تلوّن الغول يقول "عباس بن مرداس السُّلمي":

أصابت العام رعلا غول قومهم … وسط البيوت ولون الغول ألوان

فالغول عندهم تتحول في أية صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من أن تكونا رجلي حمار، كما يدّعون. وذكر أن "الغول" هي "السعلاة"، وهما كلمتان مترادفان، وذكر أن الغيلان جنس من الجن والشياطين، والعرب تُسمي الحية الغول. وقيل أن "أنياب أغوال" الواردة في شعر لامرئ القيس هي الحيات، وقيل: الشياطين، فهو يقول:

أَيَقتُلُني وَالمَشرَفِيُّ مُضاجِعي … وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كَأَنيابِ أَغوالِ

فالمشرفي سيف منسوب إلى المشارف وهي قُری من أرض العرب تدنو من الشام تُصنعُ فيها تلك السيوف. والزُّرق المسنونة: هي السهام المحدودة جعلها زُرقا لصفائها وشبهّها بأنياب الأغوال تشنيعًا لها مبالغة في وصفها، والأغوال: الشياطين قال أبو حاتم يريد أن يكبر بذلك ويعُظّم، فقد بالغوا في تمثل ما يُستقبحُ من الذكر بالشيطان، وفيما يُستقبح من المؤنث بالتشبيه له بالغول.

فالغولُ إذن اسم لكلّ شيء من الجن يعرض للسّفّار، ويتلوّن في ضروب الصّور والثّياب، ذكرا كان أو أنثى. إلّا أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى، وقد قال أبو المطراب عبيد بن أيّوب العنبريّ:

وحالفتُ الوحوشَ وحالَفتني … بُقرب عهودهنّ وبالبعادِ

وأمسى الذّئبُ يرصدني مخشّا … لخفّة ضربتي ولضعف آدي

وغُولا قفرة ذكر وأنثى … كأنّ عليهما قطع البجادِ

ويلحظ الجاحظ من هذه الأبيات أن شعراء العرب قبل الإسلام من جعل في الغيلان الذّكر والأنثى، كهذا الشعر الآنف لأبي المطراب العنبري.

وفي مغامرات الشاعر العبسي عنترة نجد أن الغول تتعرض له، وهي تبدو كالنور الساطع في الصحراء، تارة تختفي وتحتجب عن ناظريه فهي تتلون له في اختفاء وظهور؛ ولا تدوم على حالة واحدة، يقول: 

والغولُ بين يديَّ يختفي تارةً … ويعودُ يظهرُ مثل ضوءِ المشعَلِ

الغول

السعلاء وتزاوج الغول بالإنسان!

على أن بعض علماء اللغة من ذكر أن الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق، وأما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكروا أنها سَحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وأن الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها -أي السعالي- أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وإنها إذا ظفرت بإنسان تُرقّصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر. وذُكر أن "السعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول السفار، وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الإنس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب.

ولعل الربط بين الغول والجن يستند إلى قدرة الغول على التلون والتشكّل بأي شكل يروقه وهذه الصفة الجامعة بين الغول والجن، هي التي جعلت الكثير من الدارسين يرون أن الغول والسعلاة جنس من الجنّ، أما السعلاة فهي نوع من المتشيطنة، قال السهيلي: "هو حيوان يتراءى للناس بالنهار، ويتغوّل بالليل، وأكثر ما يوجد بالغياض، وإذا انفردت سعلاة إنسان وأمسكته صارت ترقصه وتلعب به"، وهناك أخبار كثيرة عمن استهوتهم الجن والغيلان فأخذتهم وقتلتهم، ومن مثل ما يُروى عن ظهور الشَّق للمسافرين؛ "إذ من الجنّ جنس صورة الواحد منهم نصف صورة الإنسان، واسمه شقّ، وأنه كثيرا ما يعرض للرجل المسافر، إذا كان وحده، فربما أهلكه فزعًا أو ضربا أو قتلا".

ويذكرون أيضًا أنهم قد تعارفوا على أن الجن والشياطين والغيلان منها قادرة على التمثّل في صورة الآدميين؛ بيد أن أقدامها لا سيما الغول لا يمكن أن تتغير عن أرجل الحمير، يقول الجاحظ: "وتزعمُ العامّة أنّ الله تعالى قد ملّك الجن والشياطين والعمّار والغيلان أن يتحوّلوا في أيّ صورة شاؤوا، إلّا الغول، فإنّها تتحوّل في جميع صورة المرأة ولباسها، إلّا رجليها، فلا بدّ من أن تكون رجلي حمار".

وكم هي عجيبة قصص الغول لديهم، فإن هي ضُربت بالسيف ضربة واحدة هلكت، وإن أعاد الضارب ضربة أخرى قبل أن تموت فإنها لا تموت، والشاعر العربي يشير إلى خطورة الضربة الثانية، لذلك فهو يحرص على أن تكون ضربته الأولى قوية قاضية، وإلى هذا المعنى يشير الشاعران "تأبطَ شرا"، و"أبو البلاد الطهوي" في قصيدة تُنسبُ للأول مرة، وتُنسبُ للثاني مرة أخرى.

يقول الأول:

فقالتْ: عُد، فقلتُ لها رُويدًا … مكانك إنني ثبتُ الجنانِ

وقال الثاني: 

فقالت: زِد، قلتُ رويدًا إني .. على أمثالها ثبتُ الجنان

فالغول تريدُ الاستزادة من الضرب لأن الضربة الثانية وما بعدها تجعلها – في ظنهم – أقوى وأشد شكيمة، لذا فإن الشاعرين الجاهليينِ لا تنطلي عليهما الحيلة، وهذا ما يزيد الكائن الأسطوري غموضًا واضطرابًا، فهو على خلاف بقية الكائنات الأخرى يموت من الضربة الأولى، ويحيى من الثانية والثالثة!

لكن يبدو من تصوير الأشعار والأخبار لهذه الغيلان أنها كانت من الكائنات التي تجمع بين جنسين ينتميان إلى عالمين مختلفين بين الإنس والجن تارة أو بين الجن والحيوان تارة أخرى، وقد ساعد على رواج هذه الأخبار كثرة القصص والأخبار، وشيوعها بين العرب بمختلف قبائلهم، بل ذكروا أن رجلا اسمه عمرو بن يربوع بن حنظلة قد تزوج الغول، وأولدها بنين، ومكثت عنده دهرًا، فكانت تقول له: إذا لاح البرقُ من جهة بلادي، وهي جهة كذا فاستُره عني، فإني إن لم تستره عني تركتُ ولدك عليك، وطرتُ إلى بلاد قومي، فكان عمرو بن يربوع كلما برق البرقُ، غطّى وجهها بردائه، فلا تبصره، قالوا: فغفل عمرو بن يربوع عنها ليلة، وقد لمع البرقُ فلم يستُر وجهها، فطارت وقالت له وهي تطيرُ:

أمسِكْ بَنيكَ عمرو إني أبـ … رقُ على أرض السعالي آلِق!

ومن هذا النتاج المشترك بين الإنسان وهذه الغول ينتسبُ بني السعلاة من بني يربوع، وقد قال الشاعر علباءُ بن أرقمُ في هجوهم:

يا قبَّح الله بني السَّعلاة عمرو … بن يربوع شرار الناتِ

ليسوا بأبطالٍ ولا أكياتِ

يقصد الشاعر بـ"الناتِ": الناس. و"أكيات" أي "أكياس"؛ وإبدال السين تاء لغة من لغات العرب ولهجاتهم.

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه، وقال: "وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك". وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم، وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، ومنه زواج الإنس بالسعلاة أو الغول.

ويزعم الحكم بن عمرو البهراني وكان كفيفا أنه تزوّج الغول، وجعل صداقها غزالا وزِقّ خمر، فالخمر لطيب الرائحة لها، والغزال لتجعله مركَبا؛ فإن الظباء من أفضل مراكب الجنّ في اعتقاد العامّة، وهو يقولُ:

وتزوّجتُ في الشبيبةِ غُولا … بغزال وصدقتي زِقُّ خمرِ

ويرجّح الجاحظ صحة الزعم السائد بزواج الإنس بالجن؛ مستندًا إلى قوله تعالى في سورة الإسراء: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ)، وقوله تعالى في سورة الرحمن: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ). قالوا: فلو كان الجانّ لم يُصب منهنّ قطّ، ولم يأتهنّ، ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات- لم يقل ذلك في القرآن الكريم.

إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان!

الأمر اللافت أن الغول قد ذُكرت في مصنفات الحديث النبوي، وقد وقعت لها أخبارُ مع العديد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين اشتكوا منها، وذهبوا إلى النبي يطلبون منه المشورة في مواجهتها؛ ولهذه الأخبار المتداولة التي أثبت صحتها العديد من العلماء، كما أثبتوا كذب البقية الباقية، وقد جمع كل هذا الباحث مشهور حسن سلمان في كتابه "الغول بين الحديث النبوي والموروث الشعبي"، وقد خلُص في كتابه هذا إلى صحة وجود الغول وهي نوع من الشياطين أو الجنّ التي تعرض للناس، وتسرق متاعهم، وتفزعهم، أو تريد أن تضلهم عن سبيلهم في أثناء أسفارهم في الصحاري والفيافي البعيدة لا سيما السّعالي منها وهي عندهم "سحرة الجن".

وقد عرضت الغول لأبي أيوب الأنصاري حين قبض عليها تسرق من تمره وقصته طويلة أثبت العلماء صحتها، كما أثبتوا صحة قبض أبي هريرة للشيطان، وقد اختلفوا في تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا غُول"، وقوله صلى الله عليه وسلم الآخر: "إِذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ". فيبدو من حديثه الأول أنه نفى وجود الغول لوجود لا النافية للجنس؛ بينما أثبته في الحديث الآخر، وبين خطرها في دُلجة الليل حين تعنّ للمسافر، وتظهر له كمشاعل الليل لتُلهيه عن الطريق وتُضله، وقد فسر العديد من العلماء أن قوله "لا غول"؛ أي لا تستطيعُ أن تضلّ أحدًا، وأن الحديث الآخر بالمبادرة إلى الآذان يؤكد هذا التفسير والمعنى؛ وليس نفي أصل وجودها، وقد شاع بين العرب كما مر بنا في جاهليتهم وإسلامهم أن الغيلان تظهر لهم في الصحاري في الصور المختلفة فتضلهم وتُهلكهم وتتلوّن لهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تقدرُ على شيء من الإضلال والإهلاك طالما استعصم المسافر بذكر الله، وعلى هذا اتفق مفسّرو هذا الحديث من شرّاح الحديثين.

لقد كان الباعثُ لتناول هذا الموضوع الطريف عرضَ إحدى القنوات الفضائية لهذه الظاهرة، فضلا عن العديد من الفيديوهات التي التقطها المتجولون في الصحاري العربية يرصدون فيها وجود أضواء ليلية تبرز وتخفتُ مرة بعد مرة، وقد ذكروا أنها الغيلان التي ذكرها العرب الأقدمين، فضلا عن حديث النبي عنها، وتحذيره منها، ولما كان للغول تراثًا كبيرا في مصادر الأدب والتاريخ العربي القديم، آثرنا أن نعود إليه، وأن نتوقف معه لرصد هذه الظاهرة الغريبة في فيافي العرب التي لا تزال تعرضُ أسرارها منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد شعبان أيوب
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط، له خمسة مؤلفات في التاريخ العباسي والعثماني والمملوكي وعشرات المقالات والأوراق البحثية، ويكتب في العديد من المواقع والدوريات
تحميل المزيد