"من قطر من بلاد العرب نرحب بالجميع في بطولة كأس العالم 2022".
كانت هذه الكلمات المعبرة التي استهل بها أمير دولة قطر افتتاح كأس العالم، والتي اختصرت الكثير من المعاني، وأوصلت العديد من الرسائل المراد إيصالها للعالم بأسره. ويمكن بجولة قصيرة في الشارع العربي اليوم وفي حوار مع المواطن البسيط الذي يجاهد لكسب قوت يومه أن تتأكد من أنها صدقاً مثلت الجميع بمختلف الشرائح، وستتوقف ملياً عند الحرص الشديد والغيرة الواضحة على هذا المونديال، وتستنتج كيف أن هذا الحدث فعلاً مختلف عما سبق.
قطعاً لا أحد يشك في هوس المواطن العربي من المحيط إلى الخليج بالساحرة المستديرة وكيف يتنفس عشقها؛ لكن هذه النسخة مختلفة عن الماضي، وتجعلك تقرأ في عيونه الفخر والاعتزاز رغم أنه بعيد جغرافياً عن الدوحة بمسافات خيالية ومن سابع المستحيلات أن يخطر بباله حتى أن يقتني تذكرة إحدى المباريات؛ لكن "استثنائية" هذا العام تشعرك وكأن الجميع متأهب ومتجند خلف نجاح مونديال قطر والعرب ولو بالدعاء والتمنيات.
ومن النقاط المهمة للغاية التي ينبغي ألا نغفلها أن حجم التعبئة تضاعف منذ أن ازدادت الحملات الإعلامية الغربية شراسة؛ وشعرت حتى تلك القلة القليلة غير المكترثة بأن الكل مستهدف وفي نفس المركب، وأن ما تواجهه قطر سببه حرصها على وحدة الصف العربي والحفاظ على الهوية الإسلامية الجامعة؛ ما يعني حقاً أنهم "متوجسون" من احتضان كأس العالم لأول مرة على أرض عربية وإسلامية، وذلك ما لا يخفيه هؤلاء وصرحوا به في إعلامهم نهاراً جهاراً وبالخط العريض.
قبل مونديال قطر كان استحضار إحدى أشهر مقولات الشاعر الكبير محمود درويش "سجل أنا عربي" يقابل بالاستهزاء والسخرية؛ لكن ما عاينه العالم من خلال حفل الافتتاح المبهر يعيد تلك الكلمات للواجهة وبمداد الفخر والشموخ، وما ظل حلماً بعيد المنال وعصياً عن التحقق صار واقعاً ملموساً، ومنذ سنة 1930 تاريخ ضربة انطلاق أول نسخة لكأس العالم، وبعد سلسلة محاولات فاشلة دقت الساعة المنتظرة من دوحة الخير؛ ليقف كل العرب وقفة رجل واحد ليبهروا العالم ويخاطبوا "العنصريين" منه بسماحة دينهم وكلمات من القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
بأسلوب راقٍ وربط للجسور وحوار بين الشرق والغرب مجسداً في حديث مميز ومبدع جمع بين الملهم القطري غانم المفتاح والممثل الأمريكي مورغان فريمان؛ مع التركيز على إظهار التقاليد القطرية والعربية الأصيلة ومزجها بشكل فريد مع إيقاعات غربية سريعة واستخدام أحدث تكنولوجيات الإضاءة والصوت والخدع البصرية؛ لتكون النتيجة إبهاراً بصرياً غير مسبوق سيحفظ في سجلات المونديال وذاكرة كل من حضره أو شاهده عبر شاشات التلفزيون.
وجاء حفل الافتتاح أيضاً مدروساً بعناية فائقة، لا سيما أن كأس العالم تحديداً ليس مثل الألعاب الأولمبية التي تستغرق وقتاً طويلاً وتكون يوماً مستقلاً بذاته بعيداً عن أي نشاط لاحق؛ لكن هنا الأمر مختلف ما يتطلب حيزاً زمنياً لا يتجاوز نصف ساعة قصد إفساح المجال أمام مباراة الافتتاح، وذلك يعني ضرورة توخي دقة متناهية وعدم التفريط في أية ثانية، وذلك ما رأيناه من خلال سبع لوحات مميزة جاءت متناسقة كالتالي:"النداء؛ لتعارفوا؛ إيقاع الأمم؛ نوستالجيا كروية؛ الحالمون؛ جذور الحلم؛ هنا والآن"، ما يكشف بجلاء الحس الإبداعي العالي لدى صناعه مع الحرص على رمزية "جسرَين ضوئيين معلقين" وهي خير تعبير عما شاهدناه مؤخراً من حرص غير مبرر على تكريس هوة مجانية ينبغي ردمها بالحوار والتقارب وتلك رسالة مونديال قطر السامية.
البداية جاءت مشرقة كما توقعناها وردت على كل المشككين والحاقدين، ونتمناها 28 يوماً من الإثارة والندية والتشويق وتألق المنتخبات العربية ونفض غبار الخذلان وقطع دابر "عقدة النقص" التي تحبط العزيمة، وكما فعلتها قطر ونجحت في كسب التحدي واحتضان أول نسخة مونديالية على أرض عربية وأمتعت وأبهرت الجميع، اليوم يجب أن يحذو اللاعبون حذوها ويكسروا سجلات الإخفاق والتواضع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.