ذات نهار دق هاتف إحدى الأمهات، وحين أجابت تفاجأت بأن معلمة روضة طفلها قد اتصلت لتواسي الأم وتتحقق من صدق الخبر الذي سمعته من الطفل، حيث أبلغها الطفل بما سمعه في البيت من شجار بين الأم والأب أدى على إثره إلى طلاقهما!
صعقت الأم وأخبرت المعلمة بأن الخبر غير صحيح وأن الطفل يكذب! وصارت الأم وكامل الأسرة تلقب الطفل بالكذاب، ويتناقلون الحكاية التي حدثت بين أروقة المجالس العائلية هنا وهناك حتى وصلتني القصة!
الطفل النمام مشكلة كبيرة تعاني منها معظم الأسر، وقد يصل الحال ببعض الأسر بالحذر الشديد وعدم التحدث في أي أمر قد يفشيه الطفل للآخرين. قد يقع بعض الأطفال ضحية عفويتهم وبراءة طفولتهم في أيادٍ غير أمينة من محبين تتبع استكشاف عورات الناس وأخبارهم، فيسألونه والطفل يجيب بصدق كما تعلم، وقد تشجع بعض الأسر أطفالها على النميمة ونقل الكلام بقصد منهم لمعرفة أخبار الناس، وقد يتأثر الطفل برفاقه ويفعل ذلك للحصول على شعبية بينهم، أو يفعل الطفل ذلك مستغلاً محبة الأب دون الأم والحصول على ما يريد، إضافة للخيال الخصب الذي لدى بعض الأطفال يجعلهم يبتكرون حكايات ويضيفونها على القصص الواقعية ما يوتر العلاقات بين الناس ويفسدها. فلماذا يفعل الأطفال ذلك؟ وهل يدركون معنى السر وكيفية حفظه؟ وكيف نتعامل مع الطفل النمام؟
لماذا يقوم الطفل بالنميمة؟
قد يكون الطفل يتمتع بخيال واسع يدفعه لاختراع القصص، وقد يلجأ للكذب والمبالغة دون قصد أو إدراك منه بسبب عفويتهم وعدم إدراكهم للنتائج المترتبة على ذلك، تعليم الطفل الصدق والصراحة فيما يقول دوماً قد يدفعه لنقل ما سمعه أو شاهده بكل صدق وعفوية للآخرين ودون تفكير، وقد يكون ذلك سلوكاً طبيعياً في بعض المراحل العمرية من سن ٨ -٩ سنوات وتحدث بدافع إثبات الذات وأنه صار كبيراً ولملاقاة الاستحسان من الآخرين، وربما يكون لرفاقه وتأثيرهم عليه أثر كبير، فيجب أن نبحث وندقق جيداً لمعرفة الدافع الذي يجعل طفلي يفشي الأسرار.
كيف نتعامل مع الطفل النمام؟
معرفة سبب الداء نصف الدواء: لابد أن تعرفي لماذا يفعل الطفل ذلك، وما الذي دفعه للقيام بهذا السلوك، فهل هو طفل صادق صريح عفوي وذلك ما جعله ينقل الكلام حرفياً كما هو باعتباره الصدق؟ أم أضاف تفاصيل واختلق موضوعات ونقلها على لسان أحد أفراد الأسرة وتسبب في مشكلات، وهذا نتاج خياله الخصب، أم أن هذا سلوك اكتسبه من أحد أفراد الأسرة ويقوم بتقليده؟ أو حينما فعله لقى استحساناً وتشجيعاً من والده أو ممن حوله مما ثبت السلوك لديه، وقد تقوم بعض الأسر باستغلال أطفالها في معرفة أخبار الآخرين، أم أن طفلك لا يدرك الفرق بين الواقع والخيال، وبين السر والكلام العام، وما يجب أن نحتفظ به وما يمكن قوله؟ فمن المهم جداً البحث عن الدافع والسبب الذي جعل طفلك يقوم بهذا السلوك وذلك قبل الصراخ عليه أو عقابه، فمعرفة السبب المباشر للطفل يساعدك على اختيار العلاج وتطبيق التعديل الملائم لسلوكه.
أمانة المجلس: اشرحي له معنى السر وعلميه أن المجالس أمانات كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة"، وأن كل ما نسمعه يعتبر سراً ولا يجب أن نفشيه، حتى لو لم يطلب منا صاحبه ذلك، ويمكن تدريب الطفل على حفظ السر منذ الصغر وبخطوات تدريجية مبسطة سنذكرها في الخطوات القادمة.
أخبريه بالعواقب: أخبري طفلك بالعواقب المحتملة التي قد تحدث نتاج إفشاء أسرار الآخرين ونقل الكلام عنهم دون إذن منهم أو ضرورة، وكم من أسر تهدمت وأناس تفرقت بل وحروب قامت بسبب الفتن الناتجة عن نقل الكلام، وكذلك يجب أن يعلم أن هذا الفعل يسمى في الإسلام بالنميمة، وهي نقل الكلام بين الناس بما يكرهونه للإيقاع بينهم، ونحن منهيون عنه، والنمام غير محبوب بين الناس، حتى أن أم جميل زوجة أبي لهب وصفت في القرآن بأنها حمالة الحطب أي النميمة، وذلك لوجه الشبه بينهما، فالنار لا يزيد اشتعالها إلا الحطب، وكذلك العداوة بين الناس لا يزيد اشتعالها إلا النميمة، ولهذا الفعل عقاب من الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام"، ولكن الله قد يغفر لمرتكبها إن تاب توبة نصوحاً مستوفية لشروطها، وعلى العكس فإن الأمانة والشخص الأمين يحبه الجميع، وكان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ملقب بالأمين وحين يرونه يقولون جاء الأمين، وذلك لأمانته في كل أمور حياته وحتى أعداؤه كان يشهدون له بذلك ويأتمنونه على أموالهم، ونحن يجب أن نقتدي به.
تعاملي بحكمة: تعد الحكمة من أنجع الأساليب لعلاج المشكلات السلوكية لدى الأطفال، فعندما تكتشفين ذاك السلوك لدى الطفل فحذار من الصراخ والغضب أو الضرب للطفل وتوبيخه، بل اصبري حتى تهدئين وفكري في كيفية التعامل معه بحكمة باتباع الخطوات التي ذكرناها من معرفة السبب والدافع وراء ذلك، وملابسات الأمر، تحدثي معه بهدوء وحاوريه وافهمي منه ما حدث، واجعلي ذلك الحوار بينكما فقط دون اطلاع باقي الأسرة عليه مع احتفاظك بخصوصية الأمر مدى الحياة فهو مهم جداً في بناء شخصية الطفل وتقويتها، واجعلي طفلك يدرك عواقب الأمور مع الحفاظ على نبرة صوتك هادئة وحازمة إن تطلب الأمر ولكن دون شدة أو انفعال وصراخ، ويمكنك الاستعانة بوالده إن كان أكثر حكمة وحزماً منك، ولا يجب إطلاع باقي الأسرة عليه أو نبذ الطفل بأي لقب مثل "الفتان، النمام، خراب البيوت، الرويتر" وغيرها من الأسماء المنبوذة، فهذا من شأنه أن يثبت السلوك الخاطئ لدى الطفل، كما يعزز العند لديه ويشعره بالإحباط ويجعله يكتسب سلوكيات سلبية أخرى لا نريدها.
ففي القصة التي ذكرتها بالمقدمة، لعلمي بالطفل وقربي منه كنت أعلم أنه ذا خيال خصب وواسع جداً للحد الذي جعله يبتكر تلك الحكاية، وقمنا بتطبيق تعديل لسلوك البيت أولاً ومن ثم الطفل، فصرنا نتعامل مع ما يقوله إن كان بعيداً عن الواقع على أنه قصة خيالية رائعة يمكن كتابتها وتمثيلها، ومن ثم نجعله يدرك الواقع بعدها حتى تعدل سلوك الطفل دون القضاء على خياله الواسع، أو وصمه بألقاب تظل معه طوال عمره بينما حل الأمر بسيط جداً، لذا فعلاج الأمر بحكمة يسهل الأمر كثيراً ويجعلك تكسبين صداقة الطفل ومحبته وكذلك احترامه.
القدوة: "من شابه أباه فما ظلم"، مثل قديم يلخص الحكاية، ومفاده أن الطفل يقتدي بوالديه ويتعلم منهم ما يراه ويحاكي سلوكياتهم، وبالتالي إن كنت ثرثاراً تنقل كلام الآخرين وتتحدث عنهم بسوء فمن غير المتوقع أن تنهي طفلك عن فعل ذات الأمر أو تستنكره عليه، فكن قدوة حسنة لطفلك وانتبه لكلماتك أمامه وتحدث عن غيرك بشكل إيجابي وكلمات طيبة وهكذا يتعلم منك طفلك الخلق الحميد ويتغير سلوكه للأفضل وتتحسن علاقاتكم الاجتماعية بالآخرين.
القصة: التعلم بالقصة من أكثر الأساليب التربوية متعة وفائدة للطفل، وتساعد في توصيل الرسالة المطلوبة دوت توجيه أو نصيحة مباشرة، فيمكنك أن تنتقي قصصاً مناسبة لعمر الطفل حول موضوع الفتنة والغيبة والنميمة وأثرها على الفرد والمجتمع وعواقبه الوخيمة، وفي المقابل القصص التي تتحدث عن التحلي بالأمانة والحكمة واستخدام العقل قبل الإقدام على أي قول أو فعل، فهذا من شأنه أن يعلم الطفل بشكل أسرع وأعمق ويغير من سلوكياته للأفضل.
لعب الدور: يمكن أن نستخدم مهارات الأطفال في التخيل والتمثيل لتعديل سلوك النميمة، وذلك باستخدام قصة ألفها الطفل أو اختيار سيناريو يناسب عمرهم والقيام بتمثيل تلك القصة على شكل مسرحية تقدم للعائلة أو بين الأصدقاء، وذلك لجعل الطفل يدرك الأثر والنتائج التي ستترتب على النميمة والفتنة من نقل الكلام بين الناس ودوره الكبير في فساد المجتمع والدين أيضاً، وبهذا يكون الطفل قد تعلم بشكل فني تربوي لا يمكن أن ينساه كما يسهم في تقويم سلوك النميمة لديه ولكل الأطفال أيضاً.
الشعور بالآخرين: عندما نجعل الطفل يفكر في مشاعر الآخرين ويضع نفسه موضعهم، وبماذا يمكن أن يشعر إن قام أحد بنقل كلام عنه لم يحدث أو حدث ولا يجب أن ينقل أو لا يحب أن يعرفه الآخرين، فماذا سيشعر حينها؟ تعد تلك الوسيلة التربوية رائعة في تعديل سلوك الطفل، خاصة وأن فطرتهم لا تزال نقية ويمكن أن يستجيبوا بشكل أسرع، ولكن يجب أن ننتبه لعمر الأطفال لاتباع الطريقة الملائمة في توصيل تلك الرسالة وتحقيق الهدف المراد منه وهو تعديل سلوك الطفل، وتعليمه احترام مشاعر الآخرين.
الصديق قبل الطريق: قد تكون الصحبة ورفاق المدرسة لهم العامل الأكبر المؤثر على سلوكيات طفلك لأسوأ، فيجب أن تنتبه إلى رفاقه وتعلمه كيف نختار أصدقاءنا ويجب أن تكون معايير الاختيار أساسها الدين والأخلاق الحميدة والسلوكيات المنضبطة، وتجعله يدرك مدى تأثير الصديق على رفاقه وأخلاقهم حتى وإن ادعى أنه لا يتبعهم، فيجب أن يدرك تأثيرهم غير المباشر له مع الوقت ومراجعة نفسه وقائمة أصدقائه بين حين وآخر، وهل هم صحبة صالحة تحسّن من حياته أم تفسدها؟
التدريب: يمكنك تدريب طفلك تدريجياً على حفظ السر بطرق كثيرة منها: شاركيه إعداد مفاجأة لوالده وأخبريه أنها سركما الصغير ويجب الاحتفاظ به حتى يسعد والده، وبالتالي سيسعد الطفل بذلك وسيحتفظ بالسر لعدة ساعات على الأقل. اللعب أيضاً فرصة رائعة لتعليم طفلك معنى السر وكيفية الاحتفاظ به، فيمكنك أن تشاركيهم وضع الخطة للفريق وتخبريه ضرورة عدم إخبار الفريق الآخر كي لا يتسبب بخسارة فريقه ويحزن أصدقاءه، ويكون قد تسبب في الأذى لنفسه ومن حوله، ويمكن تكرار الأمر حتى يصل للتعلم.
كذلك يمكنك أن تخبريه عن وصفة طعام الغد التي ستعدينها، وتخبريه ألا يخبر أحداً كي يفاجئ الجميع بها ويترك لهم فرصة التفكير في الوصفة، ويكون وحده المتمتع بمعرفة السر قبل الجميع والحافظ له أيضاً. كلها أمثلة بسيطة في تعويد الطفل على حفظ السر ويمكنك تطبيقها، وفق ما يناسب مرحلته العمرية.
التعزيز: كافئ طفلك كلما امتنع عن نقل الكلام أو النميمة بين الآخرين، فيمكن أن يتم ذلك على كل مرة، ثم على كل فترة ألتزم بها مع مراعاة تباعد الفترات الزمنية أو مرات الحدوث وذلك لتقوية وتعزيز وتثبيت سلوكه الإيجابي.
إشباع احتياجاته: يجب أن تتأكد من مدى إشباع احتياجات طفلك النفسية والعاطفية قبل أي شيء، فقد يكون الدافع وراء سلوك النميمة هو جذب انتباه الآخرين له، حب الظهور، اكتساب شعبية، استغلال محبة الأبوين أو الناس للحصول على ما يريده من مال أو طعام أو لعبة وغيرها، فتأكد من ذلك واحرص على إشباع طفلك بالحب والتقدير والثناء عليه، وتلبية رغبات الطفل والتأكيد على نقاط القوة لديه، فهذا يمثل صمام أمان نفسياً وعاطفياً كبيراً لدى الطفل يحميه من جميع الانحرافات النفسية والسلوكية كذلك.
السر الذي لا يحفظ: هناك أسرار سيئة لا يجب أن يتم الاحتفاظ بها، ويجب تعليم الطفل ذلك مثل التعرض للتحرش أو التنمر من الآخرين وإجبار المعتدي عليه بعدم البوح بذلك، فهنا يجب أن يتعلم الطفل سرعة إخبار الأهل بذلك سواء وقع الفعل عليه أو على غيره وهنا تعد من باب التظلم، كذلك إن شهد الطفل وقوع جريمة ما كالسرقة أو غيرها وساومه السارق مقابل الحلوى أو المال، فيجب أن يخبر الطفل بما شاهده فوراً، وهذا يعد من باب الاستعانة على تغيير منكر أو معصية، ولتحقيق ذلك يجب أن تكون هناك علاقة قوية بينك وبين طفلك تجعله يحكي لك كل ذلك براحة تامة، وكذلك بينك وبين كل أولادك ولكن يجب الانتباه للعلاقة بينهم أن تكون قوية مع عدم الاحتفاظ بالأسرار دون إخبارك، فاجعلي علاقتك بهم مرنة ومبنية على الثقة والصداقة.
في النهاية تعليم الطفل حفظ الأسرار من الأمور التي يجب تنشئته عليها منذ الصغر، ولكل طفل سلوكياته الخاطئة فيجب النظر للخطأ وتقويمه، ونستمر في تقبل الطفل وغمره بالمحبة والتفهم مع التعامل بحكمة ونكن له قدوة حسنة، فذلك من شأنه أن يصنع تغييراً فارقاً في حياته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.