خلال 100 عام من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خاض الشعب الفلسطيني معركةً دفاعية طويلة؛ تُعبّر عن وجوده وكينونته وهويّته وحقوقه، وهو الحال الذي لا يزال قائماً ومستمرّاً.
وفي هذه المعركة، كانت وحدة الشعب الفلسطيني ولا تزال هدفاً استراتيجياً، وشرطاً لازماً لتحقيق الحدّ الأدنى من القدرة على الدفاع عن النفس.
ولنا أن نُلاحظ أنّ كلّ المكاسب التي حقّقتها "إسرائيل" على غير صعيد، ومنها تضاعُف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وتهويدها، وحصار قطاع غزّة، وتعمّق سياسات الفصل العنصري في الداخل المحتلّ، ومحاولات عزل اللاجئين والشتات عن مجريات الصراع؛ تحقّقت عندما استطاعت اتفاقية أوسلو تشظية الشعب الفلسطيني، وكسر إرادته الموحدة.
ورغم أنّ عوامل التفكّك الفلسطيني قائمة منذ نكبة الاحتلال الاسرائيلي عام 1948م؛ لكنّ الإجماع على الهدف الاستراتيجي لنضالهم، كان عاملاً موحِّداً لهم، وهو ما كان ينعكس في ميزان الصراع. ولكنّه تغيّر بعد توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993م، ولاحقاً بعد الانقسام الفلسطيني في صيف 2007، وما نتج عنه من وقائع على الأرض الفلسطينية.
تناقش هذه الورقة حالة المبادرات السياسية والميدانية، التي نشهدها منذ بعض الوقت، والتي تظهر وكأنها محاولات للخروج من حالة الجمود في العمل الوطني الفلسطيني، فتسعى للإجابة عن سؤالٍ محوريٍّ:
"هل توارُد المُبادرات وتدافُعُها، في ساحة العمل الفلسطيني (في الداخل والخارج)، دليلُ تعافٍ وطنيٍّ؛ أم أنها تنطوي على معانٍ مُغايرةٍ؟"
جهود على شكل مبادرات سياسية
في الآونة الأخيرة؛ انطلقت العديد من الجهود على شكل مبادرات سياسية، أو منصّاتٍ سياسية جديدة تتجاوز الحالة الفصائلية. وبالتوازي برزت مسمّيات لأجسام ميدانية، تحمل سماتٍ غير فصائلية، تتبنّى خطاباً وطنياً عاماً، يدعو إلى العودة إلى الكفاح المسلح.
اللافت في هذه المبادرات، أنّها في أحد جوانبها تُلبّي مطلباً وطنيّاً وشعبياً فلسطينياً، لتجاوز حالة الاستعصاء في المشهد السياسي الفلسطيني، في ضوء حالة تراجع فعالية البنى الفصائلية بصفة عامة، ما يمنحها درجةً من المشروعية، خصوصاً أن العمل الوطني لا ينبغي حصره في بوّابة فصائل العمل الوطني، على أهمّيتها وما تحوزه من شرعيات نضالية، بيدَ أنها تأتي أيضاً في ظل انحسار التأييد الجماهيري لحركة (فتح)، في ضوء ما تشهده الحركة من حالة تفكّك، بسبب صراع أقطابها على خلافة الرئيس عبّاس.
لكنّ الأهمّ من ذلك كُلّه هو فشلُ مشروع للتسوية بقيادة حركة فتح؛ وتبدُّد سراب السلام مع دولة الاحتلال، ما نتج عنه عزلة إقليمية ودولية، وانقطاع الدعم المالي العربي والدولي عنها، باستثناءاتٍ محدودة، ما جعلها تعيش فعلياً بالسبب الإسرائيلي عبر نظام المقاصّة "90% من ميزانيتها مصدرُها اقتطاع الضرائب وتحويلها من خلال البنوك الإسرائيلية".
أما حركة حماس فتبدو عليها علامات الإرهاق من ثقل الطوق السياسي والجغرافي والمالي الذي تعيشه، مما يَحدّ من قدراتها، ويعيق إمكاناتها على المبادرة الفعّالة، ويؤسّس أحياناً إلى مظاهر تراجع سياسي. على وقع هذه الانكفاءات لدى قطبي السياسة الفلسطينية.
أطلّت هذه المبادرات على المشهد الفلسطيني، لكنّها بدَت استجابةً محدودة الإمكانات، بلا أفق، أمام حجم التحدّيات التي بمجموعها تمثّل حالة الاستعصاء في العمل الوطني الفلسطيني، فحتى هذه اللحظة، ما نراه هو مبادرات، تُكرّر جهوداً سابقةً، حتّى في المسمّيات وآليّات العمل.
ولا تملك إجاباتٍ عملية ومُقْنعة تحتاجها الساحة الفلسطينية بشدّة، وهي إمكانية خلق مسارٍ يراكم قدراتٍ وطنية، تسمح لها بتعديل الاختلال في ميزان القوى بين الفلسطينيين والاحتلال، على مختلف الأصعدة.
ضعف الحالة الاقتصادية رغم المبادرات الفلسطينية
من جانبٍ آخر، وبالرغم من كون بعض المبادرات الفلسطينية تتغذى على ضعف الحالة الفصائلية أو تستفيد من انقساماتها، ومن تراجع أدائها السياسي والنضالي والجماهيري، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، فإن مساعي القائمين عليها، تأتي بدلاً من تركيزهم على سدّ حالة العجز الفصائلي.
انشغلوا أحياناً في محاولات المناكفة في محاولة منها للقضم التدريجي لمكانة هذه الفصائل التاريخية والنضالية بما تمثّله من شرعيّات وإمكانات في المواجهة، خصوصاً ما أنجزته المقاومة الفلسطينية في غزة من معادلة ردع مع الاحتلال.
إلا أن المؤشّرات تدلّ على أنها لا تملك أيَّ فرصة لتحقيق مثل هذا الهدف غير الواقعي، وبضمن ذلك محاولاتُ خلق كتلة/قطب ثالث في الساحة الفلسطينية، وهو هدفٌ مشروع إذا نجح القائمون على هذه المبادرات في بناء برنامج نهوضٍ وطنيّ جدّيّ، يشكّل رافعة للعمل الوطني، ويحقق نوعاً من الإزاحة في خريطة القوى الفلسطينية، يتيح معها إمكانية إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني على أسسٍ أكثر عدلاً وتوازناً (ودون إقصاء أو استئثار)، ويُعيد الاعتبار لشرعية المؤسّسات الفلسطينية.
وتجدر الإشارة هنا إلى جانب إضافي، فآليّات الاستجابة التي تطرحها هذه المبادرات؛ تجعلها في موقع العاجز عن التغلّب على عوامل الإخفاق والتراجع، في العمل الوطني الفلسطيني، كما توحي حتى اللحظة على الأقل، فلا يتوفر من دواخلها القوة الذاتية؛ أو أيّ مقوّمات تسهم في تعزيز فرصة الفلسطينيين للاستجابة والتكيّف مع المُتغيّرات الإقليمية والدولية.
بينما ما نراه أنّ بعضها تحوّل إلى قوة شدّ عكسية للحالة الفلسطينية باتجاه مربّعات الفشل والإخفاق، بدلاً من تطوير برامج وأفكار تفتح الباب أمام أنماط عمل جديدة تتعلم من التجارب السابقة، وتبني على ما هو قائم، وتستثمر في بعض التحوّلات الإيجابية في بيئة الصراع مع دولة الاحتلال.
ولكي نقرأ سياق هذه المبادرات والنسق الذي تفضي إليه نتائجُ عملها، بمعزلٍ عمّا يقوله أصحابها، وبموضوعية تنطلق من المصلحة الوطنية أولاً، وبعيداً عن الحسابات الضيقة أو التشكيك لأسباب فئوية، نسأل:
"إلى أيّ مدى تُسهم هذه المبادرات، أو تلك الجهود؛ في تحصين الجبهة الداخلية الفلسطينية، بما يحقّق تماسك نسيجها الاجتماعي والسياسي، ويسهم في بناء سِلمها الداخلي؟"
"هل نجحت تلك المبادرات في تعزيز مناعة الفلسطينيين لمواجهة محاولة الإلحاق "الاستتباع" لدولة الاحتلال، أو لأيّ طرفٍ خارجي إقليمي أو دولي؟"
وهل تصبّ هذه الجهود في إدارة صراع مع الاحتلال، مبنيّة على تفعيل آليّة نضالية مستدامة لا تؤدّي إلى توريط الناس في معارك خاسرة، وتمتلك القدرة على التجدّد بعوامل ذاتية بالأساس، وليس بعوامل من خارج إرادة الناس وقدراتهم؛ يمكن للعدو محاصرتها أو تعطيلها؟
وإلى أيّ حدٍّ يُمكن لهذه المبادرات أن تُراكم في الإنجازات وتتعلّم من الأخطاء التي وقعت فيها الأطراف الفلسطينية، سواء في إدارة شؤونهم الداخلية أو في صراعهم المرير مع الاحتلال؟
لماذا تتكاثر هذه المبادرات وتتكرّر في شعاراتها وأهدافها، وحتّى في آليّاتها وشخوصها؛ في حين لا نرى جهداً موازياً للتنسيق والتكامل بين هذه الجهود، ونتجاهل المنطق الذي يقول: لا يجوز هدر الأوقات والجهود في إعادة اختراع العجلة مرّةً أخرى؟
لماذا نُسقط من حساباتنا ضرورة وحتمية توسيع قاعدة التشاور بين الفرقاء في القضايا الوطنية، والعمل على صناعة التوافقات ونبذ الخلافات عوضاً عن تأجيجها وتعميقها؟
لا يُمكننا تجاهل مثل هذه المحدّدات في تصميم برامجنا ومبادراتنا، ونحن نعلم ما تعانيه الساحة الفلسطينية؛ من حالة انكشاف، وعبث في المعادلات الداخلية من قِبل العدو، وكذلك من قِبل قوى خارجية، ما يجعل من التشدّد في تقييم هذه المبادرات مسألة مشروعة، حتى لا تتكرّر مآسينا كفلسطينيين، فتُضعِف من عوائد نضالنا الحتمي في سبيل تحقيق التقدّم المنشود لإنجاز الأهداف العليا للشعب الفلسطيني.
ولنتذكّر كيف تحوّلت ثورات الربيع العربي إلى مآسٍ ونكبات متواصلة؛ بسبب غياب القيادة المركزية، وانعدام الخبرة في إدارة الصراع، في مواجهة تحالف قوى التدخل الخارجي وقوى الاستبداد في المنطقة العربية.
ليست الحالة السورية عنّا ببعيدة، فقد جرى تشظية القوى الثورية، لتسهيل انقيادها لأطراف لها حسابات أخرى على الأرض السورية، ما دفعها نحو فوضى نموذجية، استخدمها كلّ طرف لأسبابه. عندئذٍ استطاعت مجموعات صغيرة توريط الثوريين، ما أدّى إلى سحقهم، فحلّت هذه المجموعات المتطرّفة محلّ القوى الثورية، بل المفارقة أنها صارت قيادة وضع أوصلته إلى الجحيم.
ومع التدهور الحاصل في الحالة الفلسطينية؛ نتيجةً لعوامل ذاتية، أو ارتباطاً بجهود تقودها أطراف إقليمية تتقاطع أو تتناغم مع سياسات الاحتلال، في خلق عجز لدى الكتل الفلسطينية الأساسية، مع الإقرار بنوعٍ من القصور البنيوي والوظيفي يعتريها، خصوصاً في الآونة الأخيرة، لكنّها تظل الأجدر والأكثر موثوقية في مجابهة التحدّيات والمخاطر التي تحدق بالفلسطينيين شريطة أن تجدد هياكلها وتستنهض مكوناتها وتطور برامجها كي تقلص الفجوة بين اعتباراتها التنظيمية وأولويات النضال الوطني وإلا وبمرور الوقت ستتحول إلى قوى ضبط حركة الجمهور الفلسطيني لا روافع للعمل الوطني كما أقرّتها أدبياتها وصدّقه ميراثها الطويل من التضحيات والانجازات الوطنية.
مع هذه العطالة السياسية التي تمرّ بها قوى فلسطينية أساسية والفراغ الناشئ عنها، تبدو الحالة الفلسطينية الراهنة مفتوحة على احتمالات إنتاج مبادرات لا تعني شيئاً للفلسطينيين سوى إشغال حيّز الفعل الفلسطيني من جهة، وتفريغ الاحتقان الفلسطيني من جهة أخرى، وربّما توريطه من جهة ثالثة.
بدلاً من ذلك، ينبغي أن تتضافر الجهود في البحث عن حلول واقعية للاستعصاء الراهن، من خلال ما هو قائم وما تستطيع القوى الكبرى في الساحة الفلسطينية ضبطه، وتأمين الديمومة للنضال الفلسطيني؛ بمعزل عن شرط الدعم الخارجي، وعبر ديناميات ذاتية بالأساس، لا ترفض الدعم الخارجي بقدر التمسّك بقوّة الطرف الفلسطيني في فرض إرادته والإمساك بسيادته في هذه المعادلة، لا أن يكون تابعاً لها.
وهي فلسفة تحرص عليها حركات التحرّر الوطني، لضمان استقلالية قرارها عن تقلّبات السياسة لدى هذه الدولة أو تلك، ارتباطاً بتغيّرات قد تطول نظامها السياسي، أو نتيجةً لتغيّرات طرأت على حساباتها السياسية والاستراتيجية.
وهو ما يستدعي الاقتصاد في المواجهة، فلا تصرف حركة التحرر الوطني معركتها الطويلة في معركة واحدة ولا تستنزف إمكاناتها ولا تحرق كوادرها، وأن تظل تتمسّك بمعادلة أساسها التحلّي بالصبر وطول النفَس لإنجاز هدف التحرُّر من الاحتلال الاستعماري الاستيطاني.
ومع الظروف الراهنة يصبح النضال الجماهيري مسألةً جوهرية، دون التخلي عن حقّنا في الدفاع عن النفس بكلّ الأشكال، وبضمنها الكفاح المسلّح، وفقاً لما تُمليه مجريات الصراع، وهذا من شأنه أن يُعلي قيمة التضامن والمشاركة من الفلسطينيين في كلّ مكان، وألّا يقتصر تقديم التضحيات على فئة وجغرافية فلسطينية، دون إمكانية حقيقية لإسنادها جماهيرياً في كلّ أماكن الوجود الفلسطيني.
واليوم، تزداد أهمّية ذلك، مع وصول حكومة يمينية متطرّفة، تحمل تصوّراتٍ توراتية وأهدافاً جيوسياسية عميقة، تضع القضية الفلسطينية في مسار صراع أشدّ وقعاً وأكثر اضطراباً، ربّما تنتقل معها المواجهة من مربّع إدارة الصراع إلى محاولات حسمه، أو بالحدّ الأدنى إحداث تغييرات جذرية في معادلات الصراع مع الشعب الفلسطيني، وما قد يترتب عليه من تبعاتٍ خطيرة، تضرب مكتسباتٍ حقّقها نضال الشعب الفلسطيني من حيث الاعتراف الدولي بحقوقه التاريخية، أو تستهدف مقومات صموده على أرضه، في ظلّ النوايا التي أعرب عنها عددٌ من أركان هذه الحكومة الإسرائيلية المقبلة العنصرية المتطرفة.
في المقابل، لا نرى أيّ فرصة حقيقية لنجاح خطط هذه الحكومة الإسرائيلية العنصرية، إذا نجح الفلسطينيون في التوافق على برنامج الحدّ الأدنى، الذي يشمل كلّ القوى الفاعلة والمؤثرة في المشهد الفلسطيني، عن طريق التركيز على حثّ عناصر القوة ومراكمة القدرة الفلسطينية في كلّ الصعد، بحيث يشارك الجميع فيها، ولا يقبل أن يضحّي طرفٌ فلسطيني فيما يتضامن معه باقي الفلسطينيين.
هذه الشراكة المطلوبة أساسُها بناء نماذج للعمل المشترك الناجح، والحيلولة دون محاولات الاحتلال وقوى خارجية لها حساباتها الخاصة حشرَ الفلسطينيين في خيارات ضيّقة، تُراكم معها الأخطاء وتزيد من شدّة العجز؛ إلى جانب العمل الدؤوب على صيانة البيئة الإقليمية المحيطة بالقضية الفلسطينية في سبيل إبطال استراتيجية الاحتلال التمدد إقليمياً وإفشال مشروعه الاستفراد بالفلسطينيين، عن طريق التوسع في زيادة أصدقاء الشعب الفلسطيني وتقليص الخصوم، وبناء تحالفات بمعناها العام القائم على تُعميق التضامن مع الشعب الفلسطيني رسمياً، وعلى مستوى الأفراد وهيئات المجتمع المدني.
وبالرغم من الإحباط الذي أصابنا بسبب فشل جولات المصالحة الفلسطينية، إلا التمسّك والعمل بمقتضى "إعلان الجزائر" يمكن أن يشكّل فرصة مهمة للمّ الشمل الفلسطيني، وضمان بناء مرجعية وطنية لكلّ الفلسطينيين تُعنَى بجَبْهِ التحدّيات كافّةً، وتكون مسؤولة أمام الشعب الفلسطيني، ومؤتمنة على مصيره وتحقيق هدفه في الحرية والاستقلال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.