يُمسِكُ الهاتف، يفتح أحد تطبيقات التواصل، ويكتب: هي مجرد كرة منفوخة تصرف نظر الشعوب عن الهموم الحقيقية من فقر وفساد واستبداد. ويعلق آخر: وسيلة إلهاء لا غير.
هكذا هي آراء بعض الناس على مشارف بداية أول نسخة مونديالية في بلاد العرب كما في كل منافسة كروية، سخط وتدمّر وتحجيم لتلك الساحرة المستديرة. وجهة نظر تُحتَرم، وهم أحرار في طريقة التعبير عنها، وعَمّا يخالجهم من هموم.
لكن في المقابل توجد جماهير غفيرة تملأ مدرجات الملاعب ومقاهي الأحياء، وتجلس خلف الشاشات في البيوت تنتظر بشغف صفارة الحكم، تستمتع وتتفاعل مع أجواء مباراة أو بطولة تهديهم بعد صفارة النهاية بسمة أمل تارة، وتذيقهم مرارة الخيبة تارة أخرى. أليس لهؤلاء هَمّ غير كرة القدم؟ ألا يكترثون إلى الفقر والبطالة ولهيب الأسعار؟ ألا يؤلمهم الواقع كما تؤلمهم الخسارة؟ ألا يتطلعون إلى مستقبل أفضل؟
بلى! الأمل واحد والألم أيضاً، إنهم يُطحَنون يومياً كما طُحِن محسن فكري بريف المغرب، ويحترقون كما احترق البوعزيزي في تونس، كما أنهم مفلسون مثلما أفلس لبنان، ويعانون كما يعاني كل مظلوم ومسجون من الخليج إلى المحيط. غير أن كرة القدم ليست كما تبدو من رؤية سطحية مجردَ رياضة وكرة تتقاذفها الأقدام، ومُشجِّع مجنون لا هَمّ له نستكثر عليه فرحة بهدف في مرمى الخصم. إنها أعمق من ذلك بكثير.
في الواقع كرة القدم تُعَد مُتَنفّساً لهموم شعوب أنهكتها خيبات السياسة وصواريخ الحرب وصعد فوقها خط الفقر، فهي تُخرجنا من صخب الحياة وضوضائها. وعندما تنتصر فيها منتخباتنا الوطنية ننتقل لوهلة من غمامة الهمّ إلى سماء حَلُمنا فيها بانتصارات لم تتحقق في ميدان السياسة والاقتصاد، محتفين بتشكيلة كروية أهدتنا فرحة لا نحظى بها غالباً عند إعلان تشكيلات حكومات الوطن العربي الذي أثخنه الاستبداد والانقلابات والديمقراطيات الصورية.
بل أكثر من هذا، في هذه المنافسات لا تنفصل الرياضة عن السياسة، ولا هَمّ الفوز عن همّ الوطن، ولا المشجع عن المجتمع، فهي متنفسٌ وفُرصة ومُلتَقى.
فرصة للفت الأنظار
يركضون بين الخيام خلف كرة خاطتها لهم سَيّدة مُسِنَّة من الجلد، وينشدون الأغنية الرسمية لكأس العالم "ارحبو"، إنهم أطفال إدلب وهم يلفتون الأنظار إلى معاناتهم محتفلين بالحدث الكروي المنتظر، وفي نفس السياق يلفت الفلسطينيون عبر حملة "حلم فلسطيني" الأنظار بعدة لغات إلى حلمهم بالحرية وحصار الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، وإلى الحقوق التي سلبه إياها، من قبيل الحق في السفر وحضور مونديال قطر كأي شعب على الأرض.
مبادرات ذكرتني بحملة مشابهة عام 2019، كان قد أعلنها شباب مصريون بالتزامن مع استضافة بلادهم لكأس أمم إفريقيا، للتضامن مع المعتقَلين في سجون نظام السيسي بوسم "شجّع وافتكرهم"، وكان من أبرز إنتاجاتها فيديو "بطولة بأمر العسكر" الذي لفت الأنظار بأسلوب إبداعي إلى الحقيقة المأساوية؛ آلاف المعتقلين في السجون المصرية.
من مواقع التواصل إلى قلب الملعب، تحضر السياسة وهموم المجتمع بصورة لافتة؛ إذ لا تصدر مدرجات المستطيل الأخضر الهتافات للاعبين ومنتخباتهم فقط، بل لطالما كانت منافسات كرة القدم متنفساً للجماهير يُعبِّرون فيها عن هموم المواطن والوطن، فمن تلك المدرجات خرجت التعبيرات والرسائل المنتقدة للأنظمة وسياساتها، كما في المغرب والجزائر وتونس ومصر، ومنها أيضاً خرجت أهازيج الحرية التي تجاوزت أسوار الملعب إلى الشارع، بل منها ما تجاوز صداه حدود القُطر إلى عموم الوطن العربي والعالم، مثل "في بلادي ظلموني" لأنصار الرجاء المغربي، وكلها عَبَّرت عن أوجاع الشعوب وأحزانها والواقع العربي المرير.
إنها لعبة منافساتها فرصة للفت أنظار العالم إلى قضايانا، وميادينُها مُتنفسٌ لمشاعرنا وهمومنا السياسية والاجتماعية، تُعَبّر عنها حشود يستحيل التعتيم على أصواتها أثناء مباراة كرة قدم مفتوحة على الهواء مباشرة.
تُقرِّب الشعوب
أثناء مباراة منتخب المغرب الأخيرة، قبل خوض غمار المونديال، لفتت انتباهي الأعلام المصرية والجزائرية على المدرجات، يستمتع حاملوها بأداء أسود الأطلس أمام منتخب جورجيا، ويساندونهم بكل حماسة وحب. نعم إنها كرة القدم تُصلح ما تُفسده السياسة، وتساهم في لمِّ شمل الشعوب حتى وإن كانت بين دولها صراعات سياسية، وأخص بالذكر هنا العلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر، إذ لولا المشاعر الدافئة المتبادلة بين الأشقاء أثناء المنافسات الكروية ربما كنا علقنا بين سجالات السوشيال ميديا الفارغة وشتائمها، ومعظمها من ذباب وحسابات وهمية أو أقلام مأجورة.
فأن نرى تشجيع المغاربة للجزائر في مونديال جنوب إفريقيا ثم البرازيل، واحتفالهم في الشوارع عند تتويجها بكأس إفريقيا، ونرى الجزائريين يشجعون المغرب في مونديال روسيا واليوم في قطر، والجلوس جنباً إلى جنب في المدرجات خير من انخراط الشعبين في سجال سياسي يهين فيه أحدهما الآخر أو -لا قدّر الله- الاندفاع إلى حرب دموية يخسرانها معاً ويتصافح في نهايتها القادة.
بطولات كرة القدم إذن، تجتمع فيها شعوب لتذيب الجليد بينها، بعد أن فرقتها علاقات الدول الباردة، وتلتقي فيها أخرى للتقارب والتعرف على بعضها البعض، وربما بطولة كأس العرب في الدوحة العام الماضي حققت ما لم تحققه جهود جامعة الدول العربية لسنوات طويلة، حتى وإن اقتصر الأمر على محيط المستطيل الأخضر وفترة زمنية وجيزة، فهناك التقى العرب وتبادلوا الثقافات والهموم، وتعانق الأشقاء بعد طول فراق، والتفت الجماهير حول فلسطين.
المظاهر ذاتها نعيشها اليوم مع أجواء بطولة كأس العالم 2022 في قطر: فهي ملتقى شعوب العالم، ومختلف الجنسيات العربية التي حجت إلى الدوحة احتفالاً بتمام استعدادات أول بلد عربي لاستضافة الحدث الكروي الأضخم، وهي فرصة للتعبير عن قضايا المنطقة وثقافاتها المتنوعة، في انتظار أن تكون متنفساً لشعوبنا داخل ملاعب المونديال؛ كي تحكي عن همومها وآمالها، ونرى أعلام القضية تزيِّن المدرجات وتُحرِج العالم، قائلة: هنا فلسطين، كفى صمتاً ولا تَكِل بمكيالَين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.