من الطبيعي عندما يعيش الإنسان في بلد ومجتمع جديدين أن يضطر لمواجهة اختلافات كثيرة، ويتعين عليه أن يبذل جهداً كبيراً كي يتعود على هذه الاختلافات ويتعايش مع بعضها ويتأقلم مع البعض الآخر، فكل شيء في الغربة يبدو مختلفاً أو غير مألوف، بدءاً بالمكان واللغة والناس، وانتهاء بالطعام والطقس والعادات والتقاليد.
وتختلف سرعة وطريقة التأقلم على هذه الاختلافات في الغربة، بحسب طبيعة وخلفية كل شخص، وأيضاً بحسب طبيعة ونوعية هذه الاختلافات، فبعض الأمور قد يصعب التعود عليها حتى مع مرور الوقت، لكن الخيار الأمثل في مثل هذه الحالات هو التقبل والتعايش، وهذا لا يعني بالضرورة الممارسة والتقليد، بل يعني ببساطة القبول بوجود هذه الاختلافات، وأنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من ثقافة وطبيعة المكان والمجتمع الجديد الذي وجدت نفسك فيه، وأنها لن تتغير بالتالي من أجلك أو من أجل غيرك من الوافدين الجُدد.
ومن هذه الاختلافات التي يواجهها كل من يتغرب ويعيش في بلد غربي مسألة الأكل والشرب، فالشعوب لها عادات مختلفة في الأكل والتذوق، فما يعجب المصري قد لا يروق للفرنسي، وما يستطعمه الصيني قد لا يتقبله اليمني وهكذا.. لذلك من الشائع جداً أن يجد المرء في كثير من البلدان التي يزورها مطاعم ومحلات تقدم أصنافاً مختلفة من الأطباق والأكلات والمنتجات، تنتمي لثقافات أخرى متنوعة.
لكن هذا التنوع في المطاعم ومحلات الأغذية لا يحل مشكلة اختلاف الأطعمة في الغربة، فالمرء لن يقوم يومياً بارتياد المطاعم التي تقدم الطعام الذي يروق له إلا لو كان سائحاً أو زائراً عابراً، أما المُقيم فعليه أن يشتري المنتجات الغذائية بنفسه، وأن يطهو لنفسه، وأن يتعرف على ما يوجد في أسواق ومحلات البلد الذي يعيش فيه، والمشكلة في هذه الحالة أن معظم ما يتعلق بالطعام والمنتجات الغذائية غير مألوف، خصوصاً في البلدان الأوروبية، فحين تذهب إلى أقرب سوبر ماركت لتبحث عن منتج ما كنت تعرفه تمام المعرفة في بلدك، تكتشف أنك تحتاج إلى وقت طويل كي تعثر عليه، أو على ما يشبهه.
ولنضرب مثلاً بأشهر وأهم سلعة، وهي القمح، فالدقيق الذي كنت أعرفه في بلدي هو نوعان لا أكثر، دقيق أبيض ودقيق أسمر، والاختلافات كانت تعتمد على الجودة وبلد الاستيراد، أما هنا في ألمانيا فإن الدقيق عبارة عن عشرات الأصناف، كما أن الغرض أمر مهم أيضاً، فلا يمكنك أن تلتقط أول كيس دقيق على الرف وتأخذه وتنصرف، ليس الأمر بهذه البساطة على الإطلاق!
فبما أننا في بلد يشتهر بـ"الدقة" فإنك ستكتشف أن هناك دقيقاً مخصص للخبز، ودقيقاً مخصصاً للكيك، وآخر للبيتزا، ورابعاً لنوع معين من المعجنات وهكذا، وما يصلح لهذا لا ينفع لذاك، ناهيك عن الأسماء المعقدة لكل نوع مثل دقيق 630، دقيق 405، دقيق 1005… إلخ، حتى شعرت لأول وهلة أنهم يعرضون أنواعاً من صواريخ سكود الحديثة، وليس مجرد دقيق القمح الذي يُستخدم لصنع الخبز والمعجنات!
حتى البطاطا مثلاً، التي عرفتها منذ صغري كصنف واحد قد يتخذ فقط أحجاماً مختلفة، وجدتها هنا عبارة عن عشرات الأصناف والأسماء، ويخصص لها في العادة قسم كامل في السوبر ماركت، ويتم تقسيمها بحسب نوع الوجبة التي ستستخدم فيها البطاطا! نفس الكلام ينطبق على الأرز، أما البيض فمازلت إلى الآن أتمنى أن أصطحب في إحدى المرات خبيراً ألمانياً في أنواع البيض؛ كي يتفضل ويشرح لي الفرق بين كل تلك الأنواع والأشكال التي أجدها على رفوف المحلات!
لكني أعترف أنه ليست كل الاختلافات في هذا الجانب مزعجة، فالخبز مثلاً متنوع للغاية، حيث يوجد نحو 300 نوع مختلف من الخبز في ألمانيا! لذا فإن تذوق واختيار هذه الأنواع المختلفة من الخبز هي تجربة "لذيذة".
لكن تظل مسألة شراء المنتجات الغذائية معقدة، وتتطلب بعض الوقت كي يتم استيعاب الفروق والاختلافات وفهم التخصصات أيضاً، وفي بداية سنوات الغربة كان من المعتاد حين أذهب لإحضار منتج ما من محلات المنتجات الغذائية أن يستغرق مني الأمر بعض الوقت، وذلك لكي أفهم أولاً كيف يبدو هذا المنتج الذي أبحث عنه، ثم أحاول أن أجد ما يشبهه من المنتجات التي كنت أعرفها من قبل.
فإذا ما وجدت هذا المنتج أو شبيهه فإن علي حينها أن أقرأ المكونات بعناية، للتأكد من أنه لم يتم إضافة "شيء ما" لها، ولا يقتصر الأمر هنا على مشتقات الكحول أو الخنزير، بل يتعداه إلى أمور أخرى عديدة، فالمزاج الأوروبي- وخصوصاً الألماني- في هذه الناحية عجيب للغاية، ولا يمكن التنبؤ به، ومن الشائع أن تجد منتجات غذائية غريبة وربما مُخيفة! ففي ألمانيا هناك معلبات من التونة تضاف لها صلصة الكحول، وهناك أكياس تبدو كالبطاطس المقرمشة اللذيذة، ثم تكتشف أنها عبارة عن قشور من لحم الخنزير، هناك شوكولاتة بالزبادي ومعلبات فاصوليا بالعسل، نعم أنت لم تخطئ قراءة الكلمة، هناك معلبات فاصوليا بالعسل، وقد رأيتها بأم عيني، أما عن طعمها ومذاقها فلا تسألني، لأني لم أجربها، ولن أجربها بالطبع!
وتبقى مسألة لحوم ودهون الخنزير ومشتقات الكحول مُزعجة للغاية لمن لا يتناول هذه المنتجات لأسباب دينية أو اجتماعية أو صحية، فقد تخطئ وتتناول فاصوليا بالعسل، أو البسكويت بالباذنجان، أو حتى مهلبية بالبطاطا، لكن المشكلة هي أن تأكل أو تطبخ شيئاً لا يحتوي على الكحول أو الخنزير، لأن مشتقات هذين الاثنين موجودة تقريباً في معظم المنتجات والمأكولات في البلدان الأوروبية، خاصةً لحوم الخنزير، حيث يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى رخص ثمنها مقارنةً بأنواع اللحوم الأخرى، مثل العجول والخرفان وحتى الدجاج؛ لذا يُقبل على شرائها الكثيرون، ومع ذلك هناك أيضاً نسبة من الألمان ممن لا يأكلون اللحوم (النباتيون)، وهناك أيضاً من لا يستسيغ لحم الخنزير ولا يفضله، بل إن بعضهم يذهب إلى الأسواق العربية والشرقية ليشتري اللحوم "الحلال" من هناك!
والسؤال هنا بالنسبة للوافد الجديد هو: كيف يمكن أن أتجنب أكل أو شراء هذه المنتجات؟ في البداية كنت أظن أن المسألة سهلة، فما على المرء سوى أن يحفظ جيداً معنى كلمة "كحول" وكلمة "خنزير" بلغة البلد الذي يعيش فيه، وبالتالي يمكنه أن يتجنب المنتجات التي يجد فيها هذه الكلمات أو ما شابهها، لذلك كنت دائماً أقضي بعض الوقت في قراءة مكونات المنتج قبل شرائه، بحيث أكون مطمئناً أنه لا يحتوي على أي من مشتقات الكحول أو الخنزير، لكن المسألة كانت أعقد مما ظننت.
فمثلاً كنت أظن أن الحلويات بشكل عام، خصوصاً المنتجات غالية الثمن منها "آمنة"، وكان تركيزي ينصب على موضوع دهون الخنزير، إلى أن عرفت من أهل البلد أن هناك أنواعاً كثيرة من الحلويات غالية الثمن وتحتوي على نسبة كبيرة من الكحول، بل إنني وجدت أن الكحول موجود في أنواع عديدة من "العلكة" و "البونبون" وبعض المعجنات.
كما اكتشفت أيضاً- بعد مدة- أن مشتقات الخنزير يمكن أن تتواجد في منتجات لا تخطر على البال، ولا يمكن أن يشك المرء أنها قد تحتوي على هذه المادة، فمثلاً هناك أنواع من الجبنة البيضاء القابلة للدهن- وهي تشبه جبنة أبو الولد أو البقرة الضاحكة في العالم العربي- يوجد بها دهون خنزير، بل إن اسمها بالألمانية يمكن ترجمته حرفياً إلى جبنة الخنزير Schinken Käse!
وهنا بدأ الأمر يتحول إلى نوع من الوسواس، فما دامت الجبنة العادية لم تخلُ من هذه المكونات غير المرغوب فيها، فما الذي يضمن أنها لن تتواجد في منتجات أخرى بريئة المظهر؟ وهكذا أصبح الوقت الذي تستغرقه عملية شراء أي شيء أطول، بسبب غرابة وكثرة وتنوع المنتجات من ناحية، وكذلك بسبب موضوع المشتقات غير المرغوب فيها من ناحية أخرى، وأصبح هاجس مشتقات الكحول والخنزير شبحاً يطاردني في كل مكان، ورغم مرور الوقت وتراكم بعض الخبرة لدي فإنني مررت بمواقف مختلفة في هذا الجانب، بعضها كان مزعجاً ومُحرجاً.
في المقال القادم أستكمل الحديث عن هذا الموضوع وعن تلك المواقف، إن شاء الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.