كلّف الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ رسمياً زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة القادمة التي ستكون السادسة لنتنياهو، ولكن ضمن ولايته الثالثة بعد الأولى القصيرة نهاية تسعينيات القرن الماضي، والأخرى الطويلة في العشرية الثانية من القرن الجاري، ثم مغادرته فيما ما يشبه الوقت المستقطع لمدة عام إثر إخراجه من مبنى رئاسة الوزراء بالقوة تقريباً وفق قاعدة إلا نتنياهو من قبل حلفائه السابقين وخصومه الحاليين فيما يسمى معسكر التغيير، ليفوز أخيراً مع حلفائه المتطرفين والفاشيين بقاعدة نتنياهو فقط.
الولاية الأولى، كانت قصيرة وأعقبت فوزاً مفاجئاً لنتنياهو على منافسه من الجيل القيادي الثاني شيمون بيريز مباشرة، بعد اغتيال إسحق رابين، بينما اتهم نتنياهو بالمسؤولية عن ذلك مباشرة أو حتى غير مباشرة، علماً أنه كان أول رئيس وزراء من الجيل الثالث الذي ضمّ إيهود باراك وإيهود أولمرت، بينما يمكن اعتبار نفتالي بينيت ويئير لابيد من الجيل الرابع، ومن هذه الزاوية تبدو عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء بمثابة العودة إلى الوراء بالنسبة للدولة العبرية ككل.
في الولاية الأولى القصيرة 1996 – 1999، وبوجود خصوم ثعالب مثل أرئيل شارون -كان يسميه استخفافاً عارض الأزياء- وشيمون بيريز وحتى الجنرال الصاعد آنذاك إيهود باراك.
فشل نتنياهو فشلاً ذريعاً ولم يستطِع رأب الصدع في الشارع الإسرائيلي، ولا تجاوز صدمة اغتيال رابين، كما اضطر إلى مجاراة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والتوصل إلى اتفاقية واي ريفر مع الشهيد ياسر عرفات التي تضمنت الانسحاب من معظم مدينة الخليل رغم الاحتفاظ بالسيطرة على الجزء القديم بما فيها الحرم الإبراهيمي الشريف.
وعليه خسر نتنياهو الشارع الوسطي، كما اليميني الغاضب لتنصله من أفكاره المتطرفة وعدم إلغاء اتفاقية أوسلو نهائياً، لذلك لم يكن غريباً أن يخسر في العام 1999 أول انتخابات مباشرة على رئاسة الوزراء أمام الجنرال باراك الذي كان بدوره صاحب أقصر ولاية في المنصب، علماً أنه الجنرال الأبرز -قائد نتنياهو بالجيش- ونابليون الإسرائيلي حسب التعبير الدارج بالدولة العبرية، فيما اعتبر أزمة قيادية عاصفة بعد غياب الجيل الأول والثاني وفشل الجيل الثالث -ثم الرابع- في تحمّل المسؤولية.
بعد فترة من الاعتزال والتفرّغ لشؤونه الخاصة وحتى العمل تحت جلباب شارون عاد نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في العام 2009 مباشرة في أعقاب حرب غزة الأولى مع فشل الأفكار والخطط الأحادية لحزب شارون (كديما) واندثاره وزواله نهائياً من الساحة السياسية فيما بعد.
في ولايته الثانية اضطر نتنياهو إلى القيام بتحالفات مع أحزاب يمينية أو وسطية بالمعيار الإسرائيلي طبعاً -العمل وشظايا كديما ثم أزرق وأبيض- لتحاشي إعطاء صفة التطرّف عن ائتلافه، كما اضطر للعمل مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، غير أن الطبع غلب التطبع مع إفشال آخر جهود أمريكية جدية للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين والتي قادها وزير الخارجية آنذاك جون كيري بينما كان وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (2016) بمثابة طوق نجاة له.
في تلك الفترة ألقى نتنياهو ما يعرف بخطاب بار أيلان الذي قبل فيه نظرياً بحل الدولتين فيما بدا ردّاً متذاكياً وتساوقاً ومخادعاً مع خطاب باراك أوباما في جامعة القاهرة الذي دعا فيه إلى العمل من أجل اتفاق سلام نهائي في فلسطين.
فكرياً، كان نتنياهو طوال الوقت أقرب إلى الحزب الجمهوري وتيار الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وحلفائه من المحافظين الجدد المتطرفين. وقيل آنذاك إنه كان ليفوز بسهولة بزعامة الحزب والرئاسة الأمريكية لمرتين، غير أنه تحوّل مع الوقت إلى نسخة إسرائيلية، ولكن من دونالد ترامب المنقلب حتى على الحزب الجمهوري والقواعد السياسية بالولايات المتحدة.
هنا يجب الانتباه إلى أن بوش الابن مثلاً رفض معظم ممارسات وسياسات ترامب وانحاز إلى التيار العام المؤسساتي في الحزب والدولة والذي استخف به ترامب دوماً.
في ولايته الثانية عاصر نتنياهو الثورات العربية الأصيلة وابتدع مصطلح المراوحة في المكان، وعدم العودة إلى عملية التسوية مع السلطة أو التوصل إلى اتفاقيات جديدة مع الدول العربية بغرض الحفاظ على الوضع الراهن، ورفض نهائياً أفكار استئناف المفاوضات لا مع الفلسطينيين ولا السوريين بحجة أن المنطقة تمر بمتغيرات هائلة ولا أحد يضمن عدم سيطرة الإسلاميين على السلطة في العالم العربي تحديداً العواصم الكبرى والمؤثرة فيه.
ساعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض المتزامن مع تمكن الثورات المضادة في العالم العربي نتنياهو على تجاوز خطاب بار أيلان والعودة لترويج أفكاره اليمينية المتطرفة عن تجاهل القضية الفلسطينية وابتداع مصطلحات إدارة الصراع والسلام الاقتصادي أو سلام السوبر ماركت حسب تعبير نفتالي بينيت أحد حلفائه السابقين في اليمين المتطرّف.
في تلك الولاية قام نتنياهو أيضاً بتبييض صفحة المتطرفين أفيغدور ليبرمان وبينيت وتحويلهم إلى عناصر مركزية في متن الحياة السياسية لا على هامشها، ولكن ضمن المؤسسة الرسمية وبدون خطوات جارفة مثل ضم الضفة الغربية أو إنهاء أوسلو رسمياً، وخلافه معهم حصل بعد محاكمته في قضايا فساد ووجود غالبية في الساحة السياسية والحزبية ضد بقائه رئيساً للوزراء، خاصة مع مكوثه لأكثر من عشرة أعوام في المنصب.
الولاية الثانية لنتنياهو شهدت الذهاب إلى التطبيع مع الدول العربية برعاية ودعم دونالد ضمن ما سُميت صفقة القرن، واعتبار ذلك بمثابة إنجاز حتى بثمن تأجيل خطة ضمّ ثلث الضفة الغربية وغور الأردن، ولكن بالمقابل السعي لإزاحة القضية الفلسطينية نفسها عن جدول الأعمال أو تحييدها وتحجميها بالحد الأدنى تحت ستار التطبيع، وتوقع أن يستسلم الفلسطينيون بعد تجاهل قضيتهم وتخلِّي الأنظمة العربية، عنهم كما عن مبادرة بيروت للسلام ووهم أنهم سيعودون إلى رشدهم ويقبلون بما هو مطروح حسب التعبير الحرفي لنتنياهو.
ورغم فوزه في أربعة انتخابات منذ 2019 فإن نتنياهو عجز عن تشكيل الحكومة تزامناً مع رفع ثلاث لوائح اتهامية ضده في قضايا تتهمه بالفساد والرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، والرفض كان شخصياً له لا لليكود ولا للفكر اليميني مع انزياح الساحة السياسية كلها نحو اليمين المتطرف، ولكن دون تحطيم الأواني مع المحيط الفلسطيني والإقليمي والدولي.
بينما بات كل همه التحايل والإفلات من المحاكم وفي الحد الأدنى مواجهتها من مقعد رئيس الوزراء كي يتم الالتفاف حولها.
فاز نتنياهو الثالث بالانتخابات الأخيرة متحالفاً مع اليمين الديني والفاشي الأكثر تطرّفاً وفق مقايضة أو معادلة تمرير برامجها السياسية المتطرفة مقابل مساعدته على الإفلات من المحاكمة والعقاب وسن قانون يمنع محاكمة رئيس الوزراء أثناء وجوده في منصبه، كما تم تحجيم تدخل المحكمة العليا -الدستورية- في الحياة السياسية، وهذا جوهر ما جرى كقاعدة أو معادلة مع نتنياهو فقط لحلفائه المتطرفين والفاشيين.
وعليه سيكون نتنياهو الثالث ضعيفاً أو أسيراً لحلفائه الأكثر تطرّفاً مع تحجيم المحكمة العليا ودورها المهم في غياب الدستور الدائم، وهي حالة استثنائية بالعالم تظهر فرادة الدولة العبرية لكن بالمنحى السلبي، وسيكون تشريعاً للبؤر الاستيطانية العشوائية فى الضفة الغربية غير القانونية حتى وفق القانون الإسرائيلي، وسيكون توسيعاً وتكثيفاً للاستيطان والسعي لفرض الأمر الواقع في المسجد الأقصى والحرم القدسي، وتزايد الاقتحامات كمّاً ونوعاً بقيادة العنصري الفاشي إيتمار بن غفير الذي سيتولى وزارة الأمن الداخلي، المسؤولة عن الأوضاع في القدس المحتلة مع تبني سياسات عنصرية أكثر فظاظة ضد المواطنين العرب في الأراضي المحتلة عام 1948 وعودة أفكار الترانسفير والتهجير القسري إلى جدول الأعمال بحجة منع الوجود العربي في مناطق النقب والجليل، كما طرح مشاريع قوانين إعدام للمقاومين وحتى إبعادهم وعائلاتهم إلى خارج فلسطين المحتلة.
من ناحية أخرى، سيعمد نتنياهو الثالث إلى مواصلة التطبيع مع الدول العربية لمواجهة إيران وسياساتها التوسعية، وتهميش القضية الفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال بحجة الانشغال بقضايا إقليمية ودولية ضاغطة، كما تمرير العامين المتبقيين إلى حين انتهاء ولاية جو بايدن خاصة بعد صمود هذا الأخير بل وفوزه غير المتوقع في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وخروج ترامب حليف نتنياهو ضعيفاً منهكاً منها.
بالعموم، ستتزايد مع نتنياهو الثالث أجواء التطرف الفاشية والعنصرية بالدولة العبرية حتى ضد المعارضين اليهود أنفسهم، مع ضخّ ميزانيات هائلة لإرضاء أعضاء الأحزاب المتدينة غير المنتجة، والتي تمثل عبئاً على الاقتصاد والدولة، وستتزايد هجرة الإسرائيليين العكسية بموازاة التهويد والاستيطان والقتل والتشريد بالاتجاه الفلسطيني، ما سيؤجج أجواء الانتفاضة الحاضرة أصلاً منذ هبّة "الشيخ جرّاح" العام الماضي بما يتجاوز بكثير "هبة النفق الصادمة" في العام 1996، والتي كانت أحد أسباب خسارة نتنياهو الانتخابات وطيّ ولايته الأولى بسرعة، بينما تسير الأمور باتجاه مماثل، لكن مع فشل مشروع السلطة التي قادت هبّة النفق وتولى الشعب الفلسطينى زمام الأمور بنفسه. قد تكون ولاية نتنياهو الثالث أقصر مما يتصوّر كثيرون وحتى هو شخصياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.