هناك حالة من الإحباط التي تسود الفريق المعارض للسيسي، وهي شريحةٌ واسعة تضم تيّاراتٍ سياسية وفكرية متنوعة، يميناً ويساراً، إضافة إلى عموم المصريين، الَّذين يهمهم تحسن الأوضاع العامة دون الدخول في تفاصيل، ولا يشعرون بالارتياح للسيسي لسبب أو لآخر.
هذه الحالة يمكن استقراؤها على المساحة الأخيرة الباقية للمصريين للتنفيس عن مشاعرهم (مواقع التواصل) بعد إغلاق وعسكرة كلِّ القنوات التقليدية التي تتمتع بها المجتمعات الأخرى الّتي تمارس حياتها بشكل طبيعي، وهي في الأساس، أي هذه المشاعر تتسم بعدة سمات، الأولى أنها وليدة اللحظة؛ لأنّ قبلها بساعات قليلة كان هناك نوع من التفاؤل الملحوظ إثر تخبط النظام إعلامياً وسياسياً في إدارة الاستحقاقات الآنية وعلى رأسها مؤتمر المناخ وملفِّ إضراب علاء عبد الفتاح.
فقد شاهدنا جميعاً الهيستيريا الوطنية الّتي ضربت منصات النظام الإعلامية خلال الساعات الأخيرة، وممارسات "السَّلبطة" التي عمَّت مناقشاتهم وصعود خطاب الاستقواء بالخارج الدال على حالة من الهزيمة والتخبُّط، لحظياً على الأقلِّ، وهي إحدى اللحظات النادرة التي نراها لدى تيار مؤيدي النظام منذ 3 من يوليو/تموز 2013.
السمة الثانية الَّتي تميز حالة الإحباط تلك، أنها ردُّ فعل للتوقعات المرتفعة مرةً أخرى، تجاه الشارع، دون وجود قرائن كافية لرفع سقف التوقعات، وثالثاً أنّ تلك الحالة، التي ستستمرُّ معنا بعض الوقت، تزداد اطرادياً مع زيادة مظاهر "الشماتة" لدى مؤيدي النظام من اللجان الإلكترونية، وهم فصيل يتقلب، معظم الوقت، بين المشاعر المتطرفة غير المبررة، وخاصة الانتشاء والهلع.
وعليه، فقد كانت المشاعر في الساعات الأخيرة، قبل يوم الجمعة 11 نوفمبر/تشرين الثاني، وخلالها وبعدها، مبنيَّةً تماما على "اللقطة"؛ وضع يشبه نفسية المضاربين في البورصة خلال الأوقات الصعبة، فقد صعدت الأسهم سريعاً واكتست بالأخضر مع صورة النائب البرلماني المطرود بفضيحة على يد الأمن الأممي، ومشهد الاستعانة بطلاب مراهقين لإسناد النظام في الموقف الحرج بشرم الشيخ، ثم هبطت، بسرعة شديدة، إلى أدنى مستوياتها مع صور الميادين الخالية ولقطات السيسي الإيجابية مع بايدن ومن قبله نانسي بيلوسي.
لا حوافز كافية للنزول
نزل المصريون في عهد السيسي إلى الشارع احتجاجاً على سياساته بشكل متجاوز للأيديولوچيّات، وبنفسٍ مصريٍّ فاقع، في عدة مناسبات، أبرزها احتجاجاً على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير بالغتيِّ الأهمية على البحر الأحمر للسعودية 2017، واعتراضاً على التعديلات الدستورية الّتي تعطي السيسي صلاحيات مطلقة لاحقاً، ثم في سبتمبر/أيلول 2019 و 2020، على التوالي، اعتراضاً على فساد السيسي وعائلته كما كشفت تسريبات المقاول حينها، وفي الأخير رفضاً لصيغة قانون التصالح على مخالفات البناء: الهدم أو الدفع.
بلغة علم النفس السياسيِّ، ففي كلّ مرة، قررت طليعة صغيرة جداً من عموم المصريين النزول والمخاطرة بمسار الاعتقال الانتقاميِّ، كان هناك "مثير" سياسيِّ و اجتماعيِّ لحظي، يستفزُّ كبرياء المجتمع، ليدفع تلك الطليعة إلى المخاطرة، نيابةً عن باقي المجتمع.
في المرة الأولى التي استجابت فيها تلك الطليعة لدعوة المقاول، كان المثير اللحظي الأساسي هو اعتراف السيسي الجارح لكبرياء المصريين ببنائه قصوراً رئاسية من أموالهم، مع استشعار أنّ هناك نوعاً من التعاطف الخفيِّ، والتّمزُّق، في الجبهة الداخلية للنظام، لدرجة أنّ أنصاره، حينها، لم يكن لديهم سرديَّة مُعممة قطِّ للدفاع عنه، بعد اعتراف السيسي على نفسه، فراحوا يخبطون خبط عشواء للنَّيْل من شخصية المقاول، ولكنَّ ذلك لم يكن كافياً لامتصاص المثير.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، خرجت المظاهراتُ، على مضض من القرى، احتجاجاً على قضية معينة وملفٍّ معين، بمجرد أن تم امتصاص الملف عاد الناس إلى بيوتهم. وهو ما حدث عندما تراجع النظام في ملف قانون التصالح، مقدماً تسهيلات نوعية في طرق السداد ومواعيدها وأسعارها، ليشعر الناس من جهة بالارتياح والتنفيس وإشباع المثير، ويتفادى النظام بذلك أي مخاطر أكبر.
هذا ناهيك أنّ في عام المقاول، كان هناك إلى جانب المثير اللحظي الحفَّاز، إحساس جوهري قد نما إلى وجدان المصريين، بشكل أو بآخر حينها، بأنَّ هناك فرصةً، قد لا تعوض للإطاحة بالسيسي، بأقلِّ الخسائر البشرية والاجتماعية والاقتصادية على الجميع، إذا كان المقاول، فعلاً، مدعوماً من أحد مراكز القوى الغاضبة في الاستخبارات العامة والجيش، كما أُشيع حينها.
ما الذي تغير؟
بعيداً عن تأثير المشاعر المتناقضة التي ضربتنا جميعاً في الساعات الأخيرة، لنسأل أنفسنا: ما الذي تغير؟ فأسباب الاحتقان "البنيوية" لا زالت موجودة، من غلاء فاحش للأسعار، وارتفاع هائل في الديون، واستمرار في سياسات الإنفاق غير المدروسة، مع انتهاء صلاحية الوعود بالتحسن القريب، في ظلِّ ارتفاع كلفة الاقتراض، وتخلِّي الدول الداعمة عن المنح غير المشروطة.
كما أنّ هناك عاملاً مستجداً قد لا يتكرر مرة أخرى، فالعالم كله موجود في مصر تقريباً الآن لحضور قمة المناخ، مما سيحجِّم، ولو مؤقتاً، ولو لمرَّة، يد النظام الباطشة عن التنكيل بالمستجيبين للدعوة، فلماذا لم ينزل الناس؟ أهم ألفوا العبودية كما يروّج المثبطون؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك الاختزال؟
والإجابة ببساطة، أنَّ الحس العام لم يشعر أن ذلك كاف للمخاطرة. ففي هذه المرة، ليس ثمة مثير حاضر بثقله اللحظي يمكن التعويل عليه لدفع الناس لكسر حاجز الخوف أو الثأر لكرامتهم، بالإضافة إلى أنه ليس ثمة إشارات جادَّة، كما حدث من قبل مثلاً، على أنّ هناك غضباً داخلياً جاهزاً بخُطة من الغرف المغلقة للتحرُّك لتغيير الأوضاع، بحيث يكون الناس واجهة ورافعاً له. هناك مؤشرات صدرت من هنا وهناك، لكنها لم تكن جادة وكافية.
وبالتالي، دون مثيرٍ حفاز ودون ملف معين ودون أفق، سيكون النزول فعلاً انتحارياً، هذا الفعل الانتحاري وارد الحدوث بطبيعة الحال، ولكن فرص حدوثه، بالنسبة للمجتمع، هي تماماً كما بالنسبة للفرد، ضئيلة للغاية، لأنَّ النزول الكثيف يعني، تلقائياً، الرغبة، نظرياً على الأقل، في الاشتباك مع قوات الأمن التي استبقت الأحداث وانتشرت في الشوارع والأزقة والدروب بكثافة، والمغامرة، بفرض النجاح في إخضاع قوات الأمن، باستدعاء ذكريات يناير، بالمصير المجهول.
والحقيقة، التي قد لا يريد البعض تصديقها، أنّ اللاوعي الجمعي والحس العام، لا يعملان بتلك الطريقة الانتحارية عادة، ولا ينبغي لهما، وإنما يعملان، في تلك الأوقات عادة، بالمبدأ الشعبي، الدارج في كل الثقافات الإنسانية تقريباً: "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش". والسيسي المعروف، وخلفه الجيش متماسكاً وكل أجهزة الدولة، قد يكون أفضل من المجهول الذي لا نعرفه، والناس لا تُلام على ذلك لأنها طبائع الأمور. فالدافع الأخلاقي والواجب، وحدهما، لا يحركان البشر عادة.
ولا ننسى، وهي زاوية في غاية الأهمية، أنَّ معظم الوجوه المتصدرة من خارج البلاد، يصعب الوثوق فيها إلى هذه الدرجة، فكثيرٌ منهم متورطون في الترويج العمديِّ سابقاً لأخبار كاذبة (مخدرات فكرية) كما أن منهم، حقاً، من يصعب الوثوق فيه في أمر حياتيٍّ يوميٍّ بسيط، فما بالك بالمغامرة بالاعتقال أو الموت لا قدر الله؟
ما الذي تحقق؟
بالنسبة لأبواق النظام ولجانه، فإنّ عدم الاستجابة لدعوات النزول والتظاهر هو صكُّ اعتراف شعبي باستحقاق السيسي وضعه الحالي. تأييد ضمني. ولكنَّ الواقع، والحقيقة، أنَّ الذاكرة الشعبية والوجدان الأهلي قد انحفر فيه صدى كلمات السيسي الّتي جرحت كبرياءهم سابقاً، ووعوده القاطعة المتكررة بقطع الطريق على أيِّ تحرك شعبي يهدد أحلامه الاستئثاريَّة بالحكم والرياسة له ولأسرته وحاشيته دون عموم المصريين.
محفورٌ في هذا الوجدان صدى كلمات السيسي الّتي عيَّرتهم بفقرهم مراراً، وسياساته الّتي طأطأت رأس البلاد أمام الداعم الخليجي، وبدَّدت مقدراتهم، وأبناءهم، لعقود على أحلامه التافهة وعقد طفولته ونزوات أسرته. وليس ذلك كلاماً أدبياً أبداً، وإنما هو الحقيقة بعينها. فكل ذلك قد حفر -بأحرف من طين- في نفوس المصريين ووجدانهم.
وفي المجمل، نجح اليومُ، رغم عدم النزول، في معاودة التَّأكيد على ما هو معروف سلفاً: نظام الطوارئ، لم ينجح، بعد عقد من تفكيك البنى التنظيمية لمعارضيه، في أن يصبح نظاماً طبيعياً. ومراكز الأبحاث والسفارات الخارجية لن تسجل لعواصمها أنّ لجان السيسي تعيش حالة انتشاء، نظراً لكونها مزيفة، وإنما ستكتب في تقاريرها أنّ من يأتي إلى القاهرة، في عهد السيسي، سائحاً أو مستثمراً أو باحثاً أكاديمياً، عليه أن يتحلى بالحيطة والحذر؛ فكل شيء، كما أطلع السيسي بايدن، يبدو على ما يرام، ولكنه يبدو فقط، وسيظلَّ كذلك، طال الوقت أم قصر، حتَّى حين!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.