في السينما، تبدو كل قصص الحب جميلة، إلى أن يتشاجر الحبيبان، فيُقررا الانفصال، أو يفترق الزوجان بعد مشكلةٍ ما، ليُخيّم الأسف والحزن على الجو العام، ولكن حينما تعود العلاقة من جديد في نهاية الفيلم، نبتسم لتلك النهاية السعيدة، فالخلافات انتهت بغير رجعة، والشر قد زال، والحب سوف يعود، وكل شيءٍ سيكون رائعاً من جديد..
هذا في السينما بالطبع، أما في الواقع، فالأمر يختلف كثيراً..
فالعودة للعلاقة ليست دائماً خيراً، والذي يحكم ذلك هو طبيعة العلاقة نفسها، أكانت علاقة سويّة صحية، أم كانت في حقيقة الأمر علاقة سامّة؟ فالعودة للأذى أذي، والعودة للألم ألم، ومن السذاجة أن نفترض حدوث شيء آخر سوى ذلك.
والغريب أنّ الخروج من العلاقات السامة هو شيء ليس بالهيّن أبداً، على عكس ما نفترض جميعاً، وأنّه حتى وإن استطاعت الضحية الفكاك من شريكها السام، ففي الغالب، ولأسبابٍ كثيرة، ستعود إليه من جديد، لتدخل في دائرة الأذى مرة بعد أخرى.
أمرٌ غريب فعلاً ويحتاج لتحليل ودراسة.. وهذا المقال هو محاولتي لذلك..
عن العلاقات السامّة والخروج منها
أصبح مُصطلح العلاقات السامّة مألوفاً لدى الكثيرين منّا، فقد كُتب عنه مراراً بالتفصيل وعن العلامات التي تدل على أننا بداخل علاقة سامة فعلاً. صحيح أننا نخلط بينها وبين العلاقات السويّة التي تواجه بعض المشاكل أو الفتور، وهو أمرٌ طبيعي للغاية، إلا أنّه من الوعي أن نُدرك أنّ العلاقة السامّة هي علاقة تحمل من الأذى والألم أكثر ممّا تحمل من الشعور بالحب والأمان.
الحقيقة المؤلمة في هذا الموضوع، هو أنّنا لا نٌدرك كمّ الأذى الذي تعرّضنا له في العلاقة، إلا بعد أن نخرج منها فعلاً، فلا يتضح الأمر كاملاً إلا بعد أن نقطع علاقتنا بالشريك السامّ، ونتحرر منه، حينها ستبدو لنا الحقيقة برّاقة كالشمس، بعيداً عن تلاعب الشريك السامّ بمشاعرنا بينما نحن ما زلنا بداخل العلاقة.
لماذا نعود لدائرة الأذى من جديد مرة بعد مرة؟
ربما يبدو الأمر عبثياً أو كوميدياً حتى لمن هم خارج الموضوع، الذين يظنون أنّ الخروج من علاقة سامة أمرٌ بسيط، وأنّ الإصرار عليه أمرٌ مفروغٌ منه، وأنّه بالتأكيد لا يوجد أي مجال للعودة من جديد..
العلاقات الإنسانية أعقد من هذا، بخلاف أنّ الشريك السام له قُدرة رهيبة على جذب ضحيته له مُجدداً، مرة بعد مرة.
بعيداً عن الأسباب الاجتماعية والمادية، فهناك أسباب نفسية كثيرة، ولا يُمكن حصرها أو اختزالها بكلمة "الحب"، الأمر يحتاج للغوص في الأعماق لمعرفة التفاصيل التي تخص كل حالة دون سواها..
الحالة س مثلاً..عادت لعلاقة سابقة مُسيئة؛ لأنّها وجدت في عودتها راحة ما، فهي تعرف ذلك الشخص بكل عيوبه، وهو يعرفها كذلك، لن يكون الأمر مُفاجئاً بالنسبة لها أو له، صحيح أنّها تتمنى أن يكون الأمر مُختلفاً هذه المرة للأفضل، فقد وعدها شريكها بذلك، ولكنها في نفس الوقت تعرف مدى السوء الذي يُمكن أن يصل إليه الأمر، أو تظن ذلك.
عادت س بحُكم العادة والاستسهال، خوفاً من المجهول، وأملاً -خاطئاً- في أنّ شريك حياتها قد تعلّم الدرس.
أما الحالة ص.. فعادت من جديد لعلاقة مُسممة، لأنّها لم تُدرك أنّها في علاقة مع شريكٍ سامٍ بالفعل. توهّمت ص أنّه قد حدث خطأ ما، لم يكن شريكها مسئولاً عنه، وأنّ هذا الشخص لم يكن بذلك السوء الذي اعتقدته حقاً. وأحياناً كانت ص تُفكر بأنّها ربما ارتكبت بعض الأخطاء التي ساهمت في هدم العلاقة، ولذلك هي تعد بأنها ستُحسن التصرف هذه المرة، وأحياناً ما تقول لنفسها، إنّ السبب كان من قِبل أشخاص آخرين، فربما حدث ما حدث بفعل الحسد مثلاً.
عادت ص بفعل الوهم الذي امتلأ به رأسها، بعدما تم التلاعب بأفكارها، أملاً في أنّها ستحظى أخيراً بالحياة السعيدة التي تستحقها، بعدما هزمت أهل الشر الذين أرادوا لها الأذى.
وبالنسبة للحالة ع، فسببها غريب بعض الشيء، فهي قد عاشت في أسرة مُسيئة من الأصل، يختلط فيها مفهوم الحب بالإيذاء، فكان يُقال لها إننا نؤذيكِ لأننا نُحبك، أو أننا نضربكِ لأننا نخاف عليكِ ونحبك. هذا المفهوم المشوّه للحب، يجعل ع تُكرّر نفس النمط في اختيارها لشريك حياتها وهي غير واعية لذلك، لتدخل في دائرة من الألم والأذى من جديد.
عادت ع لشريك حياتها المؤذي لأنها تظنّ أنّه يُحبها مهما كان يؤذيها، ولأنّها ما زالت تُحبه مهما كانت تتحمّل من أذاه.
أما الحالة هـ، فالأمر بسيط للغاية، عادت هـ لعلاقة آذتها كثيراً فيما سبق؛ لخوفها من الوحدة، والشعور بالرفض.
فـ "هـ" للأسف فاقدة للثقة بالنفس، وهي دائمة الشعور بالنقص وبأنّها أقل من غيرها من الناس، لذا فهي لا تستحق أن تنال حبّاً خالصاً لا شائبة فيه أو شريكاً بلا عيوبٍ ضخمة.
عادت هـ لأنها لا تُريد أن تكون وحيدة، غير عالمة بأنّها ستكون بداخل هذه العلاقة أشد وحدة.
والقائمة تتسع لأسبابٍ أخرى، وحالاتٍ كثيرة بعدد حروف الأبجدية كلها.
العلاقة السامة والرومانسية في السينما
للأسف ساهمت السينما والدراما والروايات أيضاً في تحريف شكل العلاقات السامّة أو الشريك المؤذي، فقليلاً ما تجد في السينما تجسيداً واقعياً لعلاقة سامّة أو مُسيئة دون وضعها في إطار رومانسي ما، ولعل المثال الأشهر على ذلك، هي قصتي المُفضلة في الواقع أنا شخصياً، وبنات أخريات كثيرات، من بين أفلام ديزني الكلاسيكية المعروفة، وهي قصة فيلم Beauty and The Beast أو الجميلة والوحش؛ لأنها ببساطة تفترض أنّ وراء كل وحشِ ظالمٍ ومؤذِ وقبيح، أميرٌ مُحبٌّ وحنونٌ، بل ووسيم الخلقة أيضاً، فترسّخت بداخلنا نحن الفتيات فكرة، أنّ تلك هي القاعدة، وأنّ سواها هو الاستثناء، وليس العكس.
ومن النادر أن تجد منّا من تسأل نفسها، ماذا لو كان ذلك الوحش الذي اتخذتُه حبيباً لي، مجرد وحشٍ فعلاً؟ وأنّه لا أمير هنالك إلا في قصص الأطفال الساذجة، أو بداخل الروايات الرومانسية السخيفة. لكن تأتي قصة جانبية في فيلم درامي رومانسي شهير بعنوان The Holiday، بطلتها الممثلة الرائعة كيت ونسيلت، لتكون واحدة من المرات القليلة التي تم التعبير فيها بصدقٍ عن ألم الخروج من علاقة سامة، كما يقول الكتاب فعلاً.
في الفيلم، ما زالت Iris التي خرجت بالكاد من علاقة مؤذية، تقاوم مشاعرها العميقة لذلك الشخص، حتى بعد مرور سنوات على انتهائها. وما زال صديقها السابق الذي رغم وجود امرأة أخرى في حياته، يتواصل معها قائلاً إنّه يحتاجها في حياته، وإنّها الوحيدة التي يُمكن أن تُساعده حقاً. هذا الشخص يُمكن اعتباره شخصية سامّة بجدارة، لأنّه لا يُريد أن يفقد Iris ، وبذلك يجعل من الصعب عليها أن تتخطاه أو تنساه، وهو الشيء الرائع بالنسبة له، والبائس بالنسبة لها، كما يُخبرها صديقها.
وفي لحظة ضعفٍ كادت فيها Iris أن تعود لحبيبها السابق، أخيراً استطاعت بعد مرور ثلاث سنوات كاملة أن تُخبره بأنّه هو الشخص الذي قد حطّم قلبها، وبأنّه لم يُعاملها في الماضي كما تستحق فعلاً، وأنّ أسوأ ما في الأمر هو أنّه جعلها تشعر وكأنّ ذلك هو خطؤها، أو سوء تقدير أو فهمٍ منها هي، لذلك ظلّت تُعاقب نفسها لسنواتٍ عديدة على أنها أخطأت في شيءٍ لا تعرف ما هو بالضبط.
شاهد ذلك المشهد الرائع ..
"هذا الشيء المُلتوي المُسمم الذي يجمعنا معاً ، قد انتهى أخيراً".
أفاقت Iris من وهم الحب، حينما أدركت طبيعة العلاقة المريضة التي تجمعها بذلك الشخص، ووصفته بوصفٍ رائع، شيء مُلتوٍ، أي غير مستوٍ، ومُعقدٍ، وبأنّه مُسمّم، أي مؤذٍ وقاتل ومُدمر.
ماذا وإن عدنا؟ فرصة جديدة للحب، وتكرار شنيع للأذى
يقول باولو كويلو الكاتب البرازيلي الشهير:
"الجميع يستحقون فرصة أخرى، ولكن ليس لنفس الخطأ".
نحن نخلط بكل سذاجة ما بين التسامح والعفو وتجاوز ما حدث، وبين العودة من جديد لعلاقة سامة ومُدمرة، وحادثة عروس الإسماعيلية الشهيرة ليست ببعيدة. فما حدث في ليلة زفافها لا يُمكن أن يتم تجاوزه بأية حال، ومع ذلك، كان هناك فئة من الناس يثنون على العروسة "بنت الأصول"، التي ذهبت لبيت زوجها بعدها، كأي زوجة محبة ومطيعة لزوجها، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟
الذي حدث لم يكن بمفاجأة على الإطلاق لمن لديه عقلٌ رشيد، فعلى العكس الأمر بسيط جداً، فقد كرر الرجل فعلته التي فعلها سابقاً وعلى مشهدٍ من الناس، وكان من الطبيعي أن يتمادى في ذلك حينما يختلي بزوجته في البيت.
الأمر واضح كالشمس، بل وممل أحياناً، فلا جديد هنالك سيكون، الأرجح أنّ الأمر سيتجه للأسوأ، وليس للأفضل كما نتوهم نحن.
لاحظ أنّي أتحدث عن العلاقات السامة، لا العلاقات السوية التي فيها صعود وهبوط طبيعي في المشاعر.
الطبيعي أنّ من فعلها مرة، سيفعلها دوماً، على الأغلب.
الخلاصة في مقولة شهيرة تقول: حينما يُعطيك الربّ فرصة أخرى، لا تقع في نفس الخطأ.
حينما تُدرك أنّك لُدغت من ذات الجُحر مرتين، أو أكثر حتى، لا تفزع، فكلنا وقعنا في نفس الفخ، لأننا جميعاً نتذكر الأوقات السعيدة في العلاقة، ولكن ما علينا أن نفعله حقاً هو العكس، أن نتذكر المواقف السيئة والذكريات الأليمة، لأن هذا سيجعلنا عاجزين عن أن ننسى السبب الذي جعلنا نهرب من هذه العلاقات التي دمرّتنا قديماً، وما زالت تحاول..
الخروج من العلاقات السامّة صعبٌ ومؤلم، لأنّنا نخوض حرباً ضد أنفسنا، سيهزمنا الآخر، أو سننهزم نحن بأيدينا، وفي العادة لن ننجح في الهرب من المرة الأولى، يحتاج الأمر منّا لمراتٍ ومراتٍ حتى نتحرر، ولكن علينا أن نواجه معركة الألم بداخلنا، حتى نشفى في النهاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.