درج رئيس مجلس السيادة الانتقالي، المنقلب على مدنية السُّلطة في السودان، الفريق أول الركن، عبد الفتاح البرهان، بصفته القائد العام للقوات المسلحة ورأس الدولة السودانية في الوقت الحالي، منذ انقلابه في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
حتى يومنا هذا، تقتصر معظم خطاباته على الشعب فقط، من خلال منصات الجيش، وأمام جماهير الجنود المتحمسين، لتحذيراته وتهديداته المتتالية واحدة تلو الأخرى من خلال الكلمات والعبارات التي تضع صفات القائد الحقيقي لهذه القوات دائماً على المحك والرصيف تماماً.
ومع ذلك، فإن الكثافة غير المسبوقة لمشاعره، حتى ملامحه، واضحة لأي متابع لخطابه، خاصة خطابات هذا الأسبوع في قاعدة المرخيات في غرب أم درمان، وغيرها من الخطابات المستهلكة لحديثه المعتاد، الذي من أعلى المنصة ولا يكترث للكاميرات التي تنقل كل تفاصيل حديثه.
ونبرة صوت حادة للسياسيين، وكأنهم العدو الأول للجيش فقط، ويجب أن يستعد الجيش لمحاربتهم، خطابه هذا يجعلك تشعر وكأنهم مواطنون غير سودانيين وليسوا جزءاً من هذا الوطن الذي ينتمون إليه دون غطرسة عسكرية.
وبالعودة للإجابة عن السؤال الرئيسي لموضوع مقالتنا، وبعد التفكير في أنني طرحت سؤالي على بعض المحللين السياسيين، أخبرني البعض: "لأنه يركز على ترسيخ نفسه كممثل للمؤسسة العسكرية أولاً!
هذا تفسير دقيق، لكنني أعتقد أنه شائع، مثل الذي يشرح ظاهرياً أنه يريد الاختباء وراءها حتى يصل إلى ما يريد ويخطط له.
نعم، لا يمكن تبرير ذلك من وجهة نظر المنطق، أن الرجل الذي استولى باسم الجيش نفسه على السلطة في البلاد، وبث بيانه على التلفزيون الحكومي وتولى جميع مهام الدولة، تحت سلطته لتقرير ما يريد بحجة حماية الدستور وأمن البلاد في وقت يقول فيه إنه لا يريد البقاء في السلطة.
من ناحية أخرى، كيف لا؟ وهو يسعى بكل الوسائل إلى أن تظل القوة العسكرية في البلاد بإرثها الانقلابي اليوم اليد العليا لأي حكومة تأتي في المستقبل، أو كما يقول للجنود: "نريد مدنية يحرسها الجيش، حتى لو انحرفت عن الطريق، فإن سلاحكم موجود!
بمعنى، استعدوا للقيام بانقلاب ضدها.
إذا كان القائد الذي يريد الحفاظ على تماسك هذه المؤسسة من الانهيار والتفكك، كما يقول، فأين تلك القوة التي يحتفظ بها، بينما يدعوها إلى العزلة بينها وبين الشعب، وسط جدرانها العالية تلك حتى يفكر قادتها فقط في الانقلابات.
عملياً يبدو، أن طبيعة هذه المرحلة الخطابية هي مناورة طويلة، كما ذكرنا في مقالتنا السابقة، مع ذكر العوامل، التي هي في خيال البعض بالخوف من "التسييس"، والعكس صحيح هو القلق داخل هذا النظام الانقلابي، إذا كان سراً أو علانية، فإن ديناميكية هذه الخطابات ترجع إلى محاولة بث الطمأنينة داخل هذا النظام العسكري.
التقديرات تنبه إلى مصير الاشتباك مع القوة الموازية التي أصبحت الآن أقوى بكثير، وهي: ميليشيات "الدعم السريع" سيئة السمعة، التابعة لحميدتي، نائبه في المجلس وشريكه في مأزق هذا الانقلاب، الذي يُدفع بالتسوية مع بعض المدنيين من وراء الغرف المظلمة؛ لتكون منفذه من العدالة، بلا شك.
فهل الخوف الحقيقي من مصير تلك القوة، الذي يشكل خطراً لا مفر منه من حيث تسليح الأسلحة المختلفة، والتخرج المستمر للجنود، وكلها خصماً على تماسك الجيش.
تقديرات وكالة أسوشيتد برس الأسبوع الماضي حول تمدد الدعم السريع تشير الى مضاعفة القوة من 40 ألف مقاتل إلى 100 ألف مقاتل في صفوفها. ولا تزال معسكرات التدريب مفتوحة للتجنيد، ألا تبدو كل هذه الخطابات مصدر خشيتها من هنا؟
سألت نفس السؤال على صديق: ما الذي يخشاه البرهان من مخاطبة الناس على الهواء الطلق؟ قال: " لمجرد أنه يعلم أن الشارع لم يعد يصدق أقواله"!
لقد ترسخت في مخيلة عوام الناس صورة مفادها أنه يقول ما لا يفعل، أما بالنسبة لاختياره لمنصات الجيش، فهي بالتأكيد محاولة بائسة من جانبه لتشكيل رأي عام يدعم جناحه في دوائر الجيش، لأنه ببساطة يعلم أن الشارع لم يعد يصدقه.
الدكتور صدقي كابلو، قيادي في الحزب الشيوعي، يقول: "البرهان لا يخشى مخاطبة المواطنين، ولكنه يخشى القوى النظامية؛ لأنه يعرف طبيعتها، وهو يخاطبها لأنه يريد كسبها، فالقوى النظامية جميعها قد سيّست خلال 30 عاماً، والبرهان يعلم هذا، لذا فهو يخاطبها ويخصّها بالخطاب؛ ليضمن خضوعها لقيادته، خاصة عندما هدّده الاسلاميون بأنهم يملكون الجيش والقوى النظامية، ومن هنا رسائل إلى الجميع".
عموماً الرجل "يحذر الجميع من أن القوات المسلحة ستترك السياسة، لكنه في الوقت نفسه ترك آلية الثلاثية لتطرح نيابة عنه مشروعاً يحافظ فيه على أدوات العنف، من خلال قيادته المستمرة للجيش، وعدم خضوعه للسلطة المدنية ويضمن الإفلات من العقاب ليكون دائماً على مقدار التدخل، إذا كان لا يعجبه أداؤها.
رغم ذلك كله، تظل التفاسير محل جدوى رؤى ووجهات نظر لكن العدالة ستنتظر الجميع حتماً، وإن طال السفر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.