شهدنا قبل بضعة أيام، في الـ13 من نوفمبر/تشرين الثاني، تنفيذ هجومٍ إرهابي في شارع الاستقلال، الذي يُعد من المواقع التاريخية الأكثر أهمية في إسطنبول. وراح ستة أشخاص ضحية الهجوم، بينما أصيب 81 شخصاً آخرين. ونقلت التقارير أن مُنفّذة الهجوم الإرهابي كانت مواطنةً سورية، وألقت قوات الأمن التركية القبض عليها، وصرَّحت السلطات بأنها تلقت تدريباً على يد حزب العمال الكردستاني، ودخلت تركيا بصورة غير قانونية عبر عفرين، فما الذي يعنيه هجوم حزب العمال الكردستاني على المدنيين بعد مضي كل هذا الوقت؟ دعونا نلقِ نظرةً على صراع تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في العقود الماضية أولاً، لنعرف ما يعنيه الهجوم الذي شهدناه مؤخراً.
الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني
بدأ حزب العمال الكردستاني الإرهابي أولى أعماله العنيفة عام 1984، وكانت حرب تركيا ضده تُعتبر مسألة عسكرية طوال فترة التسعينيات، وبالتالي لم تخرج حلول المشكلة عن الخيارات العسكرية. وأدت المعركة ضد حزب العمال الكردستاني إلى عدة أزمات دبلوماسية مع العراق وسوريا، لكنها شهدت نقطة تحول في عام 1999، بعد القبض على قائد الحزب عبد الله أوجلان. وخلق القبض على أوجلان اعتقاداً بأن الصراع العسكري انتهى بنجاح، وأن البلاد تجاوزت الأزمة وقتها، حيث أُلقِيَ القبض على أوجلان، وسُجِنَ في جزيرة إمرالي، وانقطعت علاقته بالمنظمة، لكن تبيّن في فترة ما بعد أوجلان أن المعركة ضد حزب العمال الكردستاني لم تتغير كثيراً.
وكشف حزب العدالة والتنمية في عام تولّيه السلطة عن قناعته بأن مشكلة حزب العمال الكردستاني لا يمكن حلها بالوسائل العسكرية فقط، فأنهى حزب العدالة والتنمية "حالة الطوارئ" التي كانت مفروضةً داخل 13 محافظة تقع في نطاق المعركة، ضد حزب العمال الكردستاني منذ عام 1987، وجرى تقليل العدد تدريجياً فيما بعد، حتى أنهى حزب العدالة والتنمية هذه الممارسة.
ثم شهد خطاب أردوغان التاريخي في عام 2005 تصريحاً منه بأن المشكلة الكردية هي مشكلة الشعب بأكمله، ما يجعلها مشكلةً شخصية بالنسبة له في المقام الأول، وسلّط الضوء في خطابه على "عملية الحل" التي ستُنفذ خلال السنوات المقبلة.
ولم يكن رد حزب العمال الكردستاني على خطاب أردوغان ناعماً آنذاك، بل استمرت الهجمات الإرهابية على مختلف الأبعاد حتى عام 2013، لكن نقطة التحول في هذا الأمر لتقديم حلٍّ ديمقراطي للمشكلة جاءت مع إصدار البرلمان "قانون إنهاء الإرهاب وتقوية الإدماج الاجتماعي" في عام 2014، بالإضافة إلى "عملية الحل" التي بدأت معه؛ إذ يُنظم ذلك القانون حوارات، وإجراءات، وعمليات مثل إلقاء السلاح. وبهذا اقتربت تركيا للمرة الأولى من حل المشكلة التي كانت تحملها معها منذ تأسيسها، وبرهنت تركيا على حسن نواياها في عملية الحل، وسعيها لحلٍّ حقيقي بقرار التعامل مع القضية الكردية على ثلاثة محاور، بعد أن كانت تركيا تسعى للحل باستخدام الخيارات العسكرية فقط، وانقسم النهج الجديد إلى محورٍ سياسي، وآخر مدني، وثالث عسكري.
وكانت ردود أفعال هياكل حزب العمال الكردستاني على "عملية الحل" متباينة، لتسلك كل منها سبلها المختلفة في الحل من وقتٍ لآخر، حيث دعم الجناح السياسي- وجناحٌ اجتماعي معين- من حزب العمال الكردستاني هذه العملية، لكن جناح قنديل العسكري ظل يشعر بالقلق من أن وجوده لن يكون مجدياً في هذه العملية، فقوّضوا جهود عملية الحل. ومن ثم تعطّلت عملية الحل تماماً عندما اجتمعت تلك الصدوع في صفوف حزب العمال الكردستاني مع المعوقات التي تواجهها تركيا في الأزمة السورية (مثل قتال تنظيم الدولة الإسلامية، والممر الكردي، وقضية عين العرب).
لماذا التفجير في هذا التوقيت؟
لكن أهم سؤال يجب طرحه لفهم تفجير شارع الاستقلال، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، هو: لماذا الآن؟ إذ لم ينفذ حزب العمال الكردستاني هجوماً من هذه النوعية ضد المدنيين منذ فترة، ويمكن تقديم إجابة مختصرة وبسيطة للغاية عن هذا السؤال، بالقول إن تركيا تقترب من عقد انتخابات بالغة الأهمية (علاوةً على انتهاج عملية حل جديدة).
حيث تشكّلت التحالفات من أجل انتخابات عام 2023، وأصبحت نسبة الأصوات المحتملة لكل حزب واضحةً تقريباً، ومع ذلك هناك شريحة واحدة تتمتع بدورٍ قوي وحاسم، لكن موقفها لم يتضح بعد، وهي شريحة الناخبين الأكراد. ومن الصعب الحديث عن أي شكل من التقارب بين حزب العدالة والتنمية وبين الناخبين الأكراد، بسبب إعادة انتخابات السابع من يونيو/حزيران عام 2015، وعمليات الخندق التركية من ناحية، بينما يكمن السبب من ناحيةٍ أخرى في "الأمناء" المعينين في المحافظات للإشراف على محافظي حزب الشعوب الديمقراطي، وتهميش الحزب نتيجة موقفه من تلك العمليات (والقبض على صلاح الدين دميرطاش).
ورغم ذلك، بدأنا هذه الأيام نشهد نقاش فكرة اتجاه حزب العدالة والتنمية إلى "عملية الحل" مرةً أخرى، حيث فتح حزب العدالة والتنمية نقاشاً دستورياً جديداً حول قضية الحجاب، التي أثارها كمال قلجدار أوغلو في الأسابيع الماضية، وعقد اجتماعاً مفاجئاً مع حزب الشعوب الديمقراطي لنقاش هذه القضية، ولا شك أن هذا الاجتماع بالغ الأهمية، ربما يعيد فتح قنوات الحوار بين حزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي بعد وقتٍ طويل من إغلاقها.
ومن ناحيةٍ أخرى، وصف زعيم حزب تحالف الشعب دولت بهجلي (الذي تصدر عنه ردود أفعال قومية قوية) ذلك الاجتماع بأنه "طبيعيٌّ تماماً"، وأوضح أن الناخبين الأكراد سيُطلب منهم التصويت دون إحداث صدعٍ في التحالف، علاوةً على أن الاجتماع يُظهر إمكانية التوصل إلى مبادرةٍ كردية بواسطة حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية.
وأثار هذا الأمر التساؤلات حول ما إذا كان بالإمكان هيكلة التعديل الدستوري لحل مشكلة الحجاب وقضية الأكراد معاً في آن واحد. وفي حال تدشين مبادرة جديدة لحل القضية الكردية فسوف يأخذ جناح قنديل الموقف نفسه الذي أصر عليه في عملية الحل السابقة. إذ وصف صلاح الدين دميرطاش هجوم شارع الاستقلال بأنه عمل إرهابي، وأدانه في تغريدةٍ تقول: "… أي هجوم يستهدف المدنيين هو إرهابٌ في القانون، والسياسة، والأخلاق، والضمير… وأدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف المدنيين الأبرياء في شارع الاستقلال…".
وأدان حساب تويتر الرسمي لحزب الشعوب الديمقراطي الهجوم بوضوحٍ أيضاً. كما بعث صلاح الدين دميرطاش برسالة إدانة في الهجوم الإرهابي السابق على مركز شرطة مرسين، ليوضح بذلك موقفه من الهجمات الإرهابية (الذي يعتبر متغيراً). وإذا نظرنا إلى تلك الخطابات باعتبارها جزءاً من العملية فسنتمكن من تفسيرها على أنها تحمل اتجاهاً للتهدئة. وسنلاحظ الفارق بين "الهيكل المسلح والهيكل السياسي" لحزب العمال الكردستاني بكل وضوح، عندما نقارن تصريحات دميرطاش بتصريحات زعيم حزب العمال الكردستاني دوران كالكان، في 20 أبريل/نيسان عام 2022.
حيث قال كالكان أشياء مثل: "الفدائيون ليسوا في حالة دفاع، بل هجوم. وسنهاجم في جميع أنحاء تركيا، ولن تقتصر هجماتنا على الأهداف والمواقع العسكرية فقط، بل ستمتد إلى المدن الكبيرة، وستتحول المناطق التي لم تخطر ببالهم إلى مناطق حرب". وبالتالي يبدو أن الهجوم الأخير تصادف مع فترة تخطيط حزب العدالة والتنمية لدستورٍ جديد من ناحية، والانفراجة مع الأكراد من ناحية أخرى، ما يكشف بوضوحٍ عن نوايا الهجوم المتمثلة في تقويض الإمكانية الجديدة لإنشاء عملية سلام.
ويبدو التعديل الدستوري المخطط له وعملية الحل الجديدة للقضية الكردية جزءاً من رؤية "قرن تركيا"، التي نشرها حزب العدالة والتنمية مؤخراً، كما ذكرنا سالفاً. حيث أظهر حزب العدالة والتنمية أن الجمهورية التركية التي تدخل عامها الـ100 بدأت تبذل جهودها لتعديل دستور انقلاب 1981، والعثور على حلٍّ "غير عسكري" للقضية الكردية، التي كانت قائمةً منذ تأسيسها، وما ينطوي عليه من سلمٍ اجتماعي.
وربما يكون تفجير شارع الاستقلال، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني، بدايةً لتقويض تلك العملية مع الأسف، ومن المرجح أن تتعرض رؤية "قرن تركيا" وكل ما يتعلق بها للتخريب المتواصل من مختلف القطاعات أيضاً. ومن الواضح أن حزب العمال الكردستاني، الذي "يخشى على بقائه"، بعد حل القضية الكردية، سيفعل كل ما بوسعه لضمان ألا يأتي الحل عبر عمليةٍ سياسية، وألا يجري استبعاده من العملية تماماً. وآمل ألا تستمر هذه الهجمات، وأن تنتهي عملية حل القضية التركية بطريقة سلمية وإنسانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.