خلال القرن التاسع عشر كانت هناك خرافة لها علاقة بالموسيقى الكلاسيكية، تقول هذه الخرافة إن السيمفونية التاسعة ستكون هي العمل الأخير للملحن، ثم سيموت بعدها، وقد حدث هذا بالفعل مع العديد من الملحنين مثل بيتهوفن، وشوبرت وبروكنر ودفوراك وأيضاً غوستاف مالر، فما قصة هذه اللعنة، وكيف كانت تحدث مع كل هؤلاء؟ دعونا نسرد عليكم القصة بكل التفاصيل:
البداية كانت من عند بيتهوفن
قبل أن نحكي لكم قصة لعنة السيمفونية التاسعة، التي بدأت من عند بيتهوفن، علينا أن نرجع قليلاً إلى الوراء حتى نصل إلى بيت بيتهوفن، فقد ولد الملحن الألماني العظيم لودفيج فان بيتهوفن عام 1770، وحين وصل إلى عمر الرابعة أجبره والده على تعلم العزف على البيانو والكمان، وبسبب تعليم والده القاسي وطريقته الجافة في التعامل خُلقت شخصية بيتهوفن العنيدة والحساسة والمتحمسة، لبّى بيتهوفن كل توقعات والده، وبدأ العزف على خشبة المسرح في سن الثامنة من عمره.
وحين وصل بيتهوفن إلى سن الحادية عشرة، انضم إلى فرقة مسرح بون كموسيقي صغير، وفي سن الثالثة عشرة عمل عازفاً منفرداً في كلافيكورد، ومرافقاً لفرقة البلاط، كما نشر رسمياً أول أعماله "متغيرات البيانو"، وبعمر السادسة عشرة كان بيتهوفن قد أكمل "سوناتات البيانو الثلاث".
وفي ربيع عام 1787، زار بيتهوفن البالغ من العمر 17 عاماً فيينا لأول مرة، والتقى بموتسارت، الذي كان حينها في عمر 31، وقتذاك انبهر موتسارت كثيراً بمهارات بيتهوفن، وهنا يمكننا القول إن بيتهوفن أضحى معجزة فنية في عمر صغير للغاية، ونضج فنياً في وقت قصير، ومنذ ذلك الحين وبمساعدة النبلاء استقر بيتهوفن في فيينا، ودرس مع فرانز جوزيف هايدن مؤسس موسيقى فيينا الكلاسيكية.
وفي أغسطس/آب 1796، حين بلغ بيتهوفن عمر 26، وكان في قمة نجاحه الأكاديمي وقتها، نشر 3 سوناتات بيانو في مجلة فيينا، وهو العام نفسه الذي أصيب فيه بضعف السمع، وخلال عام 1801، حين كان بيتهوفن في عمر 31 فقد 60% من سمعه، ثم يفقده بعد ذلك تماماً وهو في عمر الـ46، وحتى بعد أن فقد سمعه بالكامل لم يتخلّ بيتهوفن عن الموسيقى، ولكنه استمر في العزف والإبداع.
قصة السيمفونية التاسعة.. من هنا بدأت اللعنة؟
في السابع من مايو/أيار عام 1824، تغير عالم الموسيقى في فيينا إلى الأبد، فعشية تلك الليلة استمع الحشد وقتذاك إلى أكثر العروض الموسيقية تميزاً وثورية في التاريخ، ومع ذلك كان هناك شخص واحد من الحاضرين لم يسمع الأداء، إنه ملحن تلك السيمفونية العظيمة لودفيج فان بيتهوفن.
ولكن كيف كانت تسير حياة بيتهوفن قبل تلك الليلة العظيمة؟ في عشرينيات القرن التاسع عشر كان بيتهوفن مشهوراً وناجحاً بالفعل؛ حيث كتب ثماني سيمفونيات وأوبرا واحدة والعديد من القطع الأخرى الموسيقية المنفردة، وفي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من عمره كان بيتهوفن منشغلاً بشؤون أسرته، حتى جاء عام 1817 وحصل على تفويض من الجمعية الفيلهارمونية في لندن لتأليف سيمفونية جديدة، وطوال خمس سنوات لم يضع بيتهوفن أي شيء على الورق، حتى جاء عام 1822 وبدأت فكرة السيمفونية التاسعة تتشكل على الورق، الأمر المميز في هذه السيمفونية كان إضافة الجوقة، ففي ذلك الوقت لم يتم استخدام جوقة مع سيمفونية من قبل، ولهذا ومع انتهاء العرض أصيب الحشد بالجنون من جمال الموسيقى، حيث صفق الجمهور بحرارة كبيرة، حتى إن الشرطة اضطرت إلى تهدئة الحاضرين مرتين، من بعدها لم يكمل بيتهوفن أية سيمفونية أخرى، ومات دون أن ينهي سيمفونيته العاشرة، وقيل أن السبب هو تسممه بالرصاص.
فرانز شوبرت.. موت آخر بعد بيتهوفن
في عام 1797، وُلد فرانز شوبرت، الذي كان أصغر من بيتهوفن بسبع وعشرين عاماً، في إحدى ضواحي فيينا، ومنذ نعومة أظفاره اتّخذ شوبرت بيتهوفن مثلاً أعلى له، ففي طفولته كان شوبرت يعزف على البيانو والكمان والأرغن، وكان أيضاً مغنياً متميزاً، وعلى عكس مثله الأعلى كان إنتاج شوبرت غزيراً للغاية، حيث يمكن اعتباره أحد أكثر المبدعين إنتاجاً في تاريخ الموسيقى على مر العصور؛ فقد أنتج أكثر من 600 أغنية فنية، وأكثر من 10 أوبريتات، و22 سوناتا بيانو، و6 مفاتحات، و3 سوناتات كمان، و1 تشيلو.
علاوة على ذلك، فهو ليس وريثاً لتقاليد الموسيقى الكلاسيكية في فيينا فحسب، بل هو أيضاً مؤسس الموسيقى الرومانسية في أوروبا الغربية، وعلى الرغم من موهبته العظيمة وأعماله الغزيرة فإن شوبرت عاش حياة صعبة، بسبب الأجر الضئيل الذي كان يتقاضاه من الموسيقى، وفي مايو/أيار عام 1824، حين كان شوبرت في الـ27 من العمر غادر من فيينا متجهاً إلى المجر، وهناك ألّف ثلاثة أعمال رائعة، ولكنه أفلس تماماً في تلك المرحلة، ليعود إلى فيينا ويتجه إلى التدريس حتى يجد قوت يومه، وخلال عام 1828 مات شوبرت بسبب إصابته بمرض السفلس عن عمر يناهز 31 عاماً، ومات بعد وقت قصير من البدء بكتابة سيمفونيته التاسعة، وقبل موته بقليل كانت أمنية شوبرت الأخيرة أن يُدفن بجوار بيتهوفن.
أنطون بروكنر.. أهم ملحن سيمفوني بعد بيتهوفن
ولد أنطون بروكنر في النمسا خلال عام 1824، وفي صغره لم يكن بروكنر يحلم بأن يكون موسيقياً، ولكنه كان يود أن يصبح مدرساً مثل والده، ولكنه وقع في غرام الموسيقى حين كان يعزف الأرغن في كاتدرائية لينز، فيما بعد وقع بروكنر في صراع بين حبه للموسيقى وعمله في مجال التدريس، ولسنوات طويلة كان يعمل في المجالين معاً، ولكنه أُصيب بالمرض من فرط العمل والإرهاق، ليقرر بعد ذلك التفرغ لتأليف الموسيقى.
وخلال عام 1894 بدأ بروكنر في تأليف سيمفونيته التاسعة، ولكنه مات قبل أن يستكملها، وقد قال عنه ريتشارد فاجنر ذات مرة: "أنطون بروكنر هو أهم ملحن سيمفوني منذ بيتهوفن". ويمكننا القول إن كل مؤلفات بروكنر كانت دائماً على غرار الموسيقى الكلاسيكية الألمانية والنمساوية، ووفقاً لتقاليد الموسيقى السيمفونية لباخ وبيتهوفن وشوبرت.
أنتونين دفوراك.. الملحن والممثل الرئيسي للموسيقى الشعبية التشيكية
إذا كان ثمة رابط بين كل الملحنين السابقين فهو أنهم جميعاً أبناء النمسا، ربما لو كان الأمر توقف عليهم لقلنا إن اللعنة تخص الملحنين الذين ولدوا في تلك البقعة الجغرافية، ولكن الأمر امتد حتى وصل إلى أنتونين دفوراك، وهو موسيقي ولد بالقرب من مدينة براغ في جمهورية التشيك، خلال عام 1841، وقد لا يكون دفوراك مشهوراً مثل بيتهوفن وشوبرت، لكن إنجازاته التركيبية في عالم الموسيقى لا يمكن الاستغناء عنها، وقد كان دفوراك معروفاً في التشيك، لدرجة أنه عندما توفي عن عمر يناهز 63 عاماً، أقامت جمهورية التشيك جنازة رسمية له.
كان دفوراك هو الطفل الأول بين تسعة أطفال، ومنذ صغره أحب الموسيقى، وكان يعزف على الكمان بشكل بارع، وبسبب ظروف عائلته الاقتصادية الصعبة كان يعزف في الأفراح المحلية، حين أسهم في صناعة موسيقى للهواة، والتي كانت ترافق رقصات الزفاف، وعلى الرغم من أنه كان يساعد أسرته في سد رمق العيش فإن والده كان يرفض بشدة عمله بالموسيقى، وكان يحلم أن يراه جزاراً مثله، ولكن دفوراك لم يتخل عن الموسيقى.
وفي عمر الثانية عشرة انتقل دفوراك إلى زلونيس للعيش مع خالته، وهناك بدأت رحلة دراسته للموسيقى، وخلال السنوات الثلاث الأولى التي قضاها في زلونيس ألّف دفوراك أول أعماله، وخلال عام 1875 حصل دفوراك على منحة موسيقية من الحكومة النمساوية، ومن هنا بدأت مسيرة دفوراك في الموسيقى، وحقق الكثير من النجاح، حيث وصل لمنصب مدير المعهد الوطني للموسيقى في نيويورك، خلال عام 1892، وبعد ذلك استمر دفوراك في تأليف المقطوعات الموسيقية الناجحة، ولكنه افتقد بلده كثيراً، ولهذا عاد إلى التشيك عام 1895، وقبل أن يستكمل سيمفونيته التاسعة انتهت حياته.
غوستاف مالر.. الموسيقي الذي حاول التحايل على لعنة السيمفونية التاسعة
في مقاطعة بوهيميا في التشيك، وخلال عام 1850 ولد الملحن النمساوي غوستاف مالر، الذي قضى معظم حياته في الحل والترحال بين بلده النمسا وعدة بلاد أوروبية، وقد بدأت رحلة مالر مع الموسيقى بصحبة الأكورديون، حين كان في عمر الرابعة، وفيما بعد تعلم العزف على البيانو، وفي عمر السادسة كتب أولى مقطوعاته الموسيقية، وخلال عام 1888 أتم سيمفونيته الأولى، التي عُزفت للمرة الأولى في بودابست.
وكقائد للفرقة الموسيقية كان مالر معروفاً بكونه شديد المثالية ومتطلباً للغاية في الأوركسترا؛ فكثيراً ما كان يطلب تغييرات في تصميم المسرح، كما كان يجعل الموسيقيين يعيدون نفس الألحان مراراً وتكراراً، ونتيجة لذلك استاء الكثير ممن عملوا معه بسبب سلوكه الديكتاتوري ومثاليته المفرطة، وفيما يخص سيمفونياته فقد كان مالر من أشد المؤمنين بلعنة السيمفونية التاسعة، ولهذا قضى الكثير من السنوات بعد تأليف السيمفونية الثامنة وهو يشعر بالهلع من المضي قدماً في تأليف الموسيقى، وفي نهاية الأمر توصل إلى طريقة يتحايل بها على اللعنة، حيث كتب سيمفونية كاملة، ورفض تسميتها بالتاسعة، وعوضاً عن ذلك أطلق عليها اسم "أغنية الأرض"، وبالفعل انتهى منها، وبدأ في السيمفونية العاشرة، وظن وقتها أن الخطر قد رحل بعيداً، ولكن رغم كل جهوده المضنية للهروب من اللعنة مات أثناء كتابة السيمفونية العاشرة، خلال عام 1911، عن عمر يناهز الخمسين عاماً، إثر إصابته بعدوى في الدم.
هل ثمة سر وراء الأمر، أم أنه محض صدفة؟
طوال أسبوع كامل كنت أعمل على هذا الموضوع، وحاولتُ التوصل إلى إجابة مفيدة تربط بين كل هؤلاء الموسيقيين، ولكني لم أحصل على إجابات كاملة، كلها كانت تكهنات وآراء، فهناك من يرى أنه لا وجود للعنة؛ لأن هناك الكثير من الموسيقيين الذين كتبوا أكثر من تسع سيمفونيات مثل موتسارت وهايدن، ولكني مع البحث تأكدت أن هؤلاء أنجزوا سيمفونياتهم قبل بيتهوفن، والأمر كله كان مرتبطاً بالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن.
فما السر؟ من وجهة نظري هناك أكثر من احتمال؛ الاحتمال الأول هو أن كل هؤلاء وصلوا إلى ذروة عطائهم الموسيقي أثناء كتابة السيمفونية التاسعة، وبالتالي لم يعد هناك المزيد لتقديمه، بيتهوفين على سبيل المثال كان معجزة، وبدأ نضجه الفني مبكراً للغاية، ولهذا وصل إلى الكمال مع العمل التاسع، ولم يعد لديه المزيد، شوبارت كتب أكثر من 600 أغنية، وكان إنتاجه غزيراً، ولهذا كان لديه الوقت لإنجاز السيمفونية التاسعة، ولكنه ربما كان يرى أنه ليس مستعداً للأمر بعد، وحين اكتمل فنه انتهت حياته.
هذا الاحتمال له علاقة أيضاً بالرقم، فجميعنا يعلم أن علم الرياضيات وثيق الصلة بعلم الموسيقى، ورقم تسعة في علم الرياضيات له دلالة مهمة، فهو يعتبر رمزاً للاكتمال، لأنه أعلى رقم فردي، أما الاحتمال الآخر الذي توصلت إليه فله علاقة بقصة قديمة، ففي قريتنا البعيدة كان هناك زقاق مظلم شديد العتمة، وكانت الجدات تحذر الأطفال من الاقتراب منه؛ فمن وجهة نظرهن أي طفل يقترب من ذلك المكان ستحدث له كارثة كبرى، في أحد الأيام ذهب أحد الأطفال إلى هناك متحدياً، وفي اليوم التالي أُصيب والده في حادث سير كبير، وقتذاك شعرنا جميعاً بالهلع، ولم نخرج من البيت طوال أيام، بعد أن كبرت أدركت أن هذا الأمر لم يكن سوى خرافة، تماماً مثل الخرافة التي انتشرت في القرن التاسع عشر، والتي ذكرت أن السيمفونية التاسعة للملحن ستكون هي اللحن الأخير، إنها تحدث فحسب، ولا يوجد أي تفسير علمي لها يؤكدها أو ينكرها، ومع ذلك فإنها حدثت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.