لقد ربيت خمسة أطفال حتى وصلوا إلى سن الشباب، وشهدت نشأة الصغار من أقربائي، وسمعت مشكلات الأمهات مع أبنائهن، وناقشت المربين في طرق التربية، واختلطت بالناس ورأيت نتائج التربية في سلوكهم.. فاكتشفت اكتشافاً مهماً، بل جوهرياً في عملية التربية: "العقد النفسية أخطر آفة قد تصيب أبناءنا"!
وحين سألتني فتاة حديثة الزواج: "ما أهم نصيحة توجهينها للأمهات؟"، قلت لها بلا تردد: "احذري على ابنك من العقد النفسية"، بل أقول لكم: "لا ضير إن نشأ الصبي أنانياً أو بخيلاً أو طماعاً.. مقابل أن لا ينشأ معقداً نفسياً!".
نعم، هذا ما اكتشفته بالخبرة "العقد النفسية تعني إعاقة دائمة مدى الحياة" ولا تعجبوا.
وقرأت في الكتب النفسية: "العقد النفسية تؤثر تأثيراً ضاراً ومعوقاً لدى المرء: فهي تشل النشاط الوجداني، وتقف حائلاً بينه وبين التعبير عما يدور في نفسه من انفعالات، وتجعله متقلباً بين الحب والكراهية: فيصبح المصاب متقلباً في عواطفه ومزاجه، مما يصعب التعامل معه ويجعل التواصل المريح متعذراً.
والعقد تجعل صاحبها متشائماً، يتوقع دائماً الشر، وينتظر المصائب أن تحيق به، فلا يركز في أموره، ويتوجس من كل شخص يقترب منه بأنه سوف يخبره بنبأ مكدر، أو يلفق له تهمة، أو يحيك له مؤامرة. والطفل الذي كان يُخوف بالطبيب أو الشرطي، يظل خائفاً منهما مهما كبر، ومهما علت درجاته العلمية وقيمته الوظيفية".
إن "العقد النفسية" داء محبط ولا علاج له، وهي تلازم الإنسان حتى تدخل معه القبر، أما الصفات السيئة الأخرى (الغرور، الطمع…) فإن مرور الأيام وازدياد الخبرة بالحياة وتقوية الارتباط بالله لكفيلة بإزالتها إن شاء الله.
"العقد النفسية" أعيت من يداويها، وإذا أردت أن يكون ابنك "رجلاً ناضجاً يُعتمد عليه" فإياك ثم إياك أن تحمليه "العقد النفسية" أو واحدة منها، فلا شيء يفسد الرجل أكثر من "العقد"، وصاحب "العقدة" لا يكون إنساناً سوياً ولا يكون متوازناً ولا عادلاً، ولا يستطيع أحد أن يقدر كيف سيكون رد فعله وحجم تجاوبه (مع ظروف الحياة اليومية)، ويكون تفاعله غير متساو مع الحدث فيُحمّل الأمور فوق طاقتها ويفهمها على غير حقيقتها، وتأخذه عقدته بعيداً عن لب القضية.
والرجل المعقد نفسياً تكثر ثوراته وسقطاته، ويكون متحفزاً فيغضب فجأة إن مس أحد عقدته ولو مساً خفيفاً، فمثلاً لو شعر شاب بأنه "جبان ومتخاذل" وتحول شعوره إلى "عقدة نفسية"، فإن مثل هذا لو قيل له على سبيل الدعابة: "أنت غير قادر على التصرف"، أو "سلوكك يُفسر ضعفاً وخوراً"، فإنه سيتأثر كثيراً ويتألم ويحبط وسيتراجع أداؤه لأيام، صدقوني!
ولو قالت له زوجته -مستقبلاً- عقب خلاف بسيط: "لو كنت رجلاً طلقني" فإنه سيطلقها فوراً لينفي الجبن والتردد عن نفسه، ولو قال له أقرانه: "لماذا لا تشاركنا التدخين وكلنا ندخن إلا أنت؟ فهل تخاف من والدك؟" فإنه سيستجيب ويدخن (ولن يبالي بمبادئه!) لأنهم لامسوا جرحه، ودخلوا إليه من نقطة ضعفه..
فأي قوة للعقدة النفسية وأي سيطرة! وإنها لتمنع التفكير السليم وتودي إلى التهلكة، وتُفقد المرء الحلم والحكمة، وهما من صفات الرجولة الرئيسية.
والعقدة هي ما تغلغل في النفس وظهر في السلوك بشكل دائم، وبالتالي لا يعتبر "أي سلوك شاذ" عقدة نفسية، إذ جاء في مباحث علم النفس: "الفرد السوي ليس هو الخالي من العيوب، بل هو الشخص الذي يستطيع -تعويضاً عن عيوبه- الإفادة من مزاياه، وهو الذي يستطيع أن يصحح أخطاءه ويتحكم في اتجاهاته تحت الظروف العادية، وهو الذي يدير أوجه ضعفه وقوته بحيث يتلاءم ويتكيف مع البيئة".
والشخص السوي يستطيع أن يرى نفسه والعالم بصورة صحيحة مستقلة عن شخصيته وحاجاته، فيحتفظ بتماسك مستمر يبقي نفسيته سليمة وسلوكه معقولاً، وأفكاره مقبولة.
ستسألين كيف أجعله سوياً بلا عقد؟
وسأقولها لك باختصار ثم بالتفصيل، أما الاختصار: "أظهري اهتمامك بطفلك قبل أن يضطر هو للفت انتباهك إليه، أشعريه بحبك الخالص الصادق فيسترخي، وبالأمن فيطمئن، وبالقبول فيرضى عن ذاته، وبالمساواة بينه وبين إخوته فيشعربالعدل ولا يغار، وبالتقدير وبالاحترام فيثق بنفسه وترتفع معنوياته، وتسامحي معه حين يخطئ فيصبر ويحتمل".
وأما التفصيل:
1- تفقدي طفلك طول اليوم وكوني معه روحياً وفكرياً؛ فاهتمي به رضيعاً، ولا تؤخري حاجاته الأساسية (طعامه ونومه) لكي يشعر بالاطمئنان والراحة ويركن إليك، واحمليه برفق وحنان وضميه إلى صدرك، واعتني به بنفسك ولا تدعيه لأخواته ولا للخادمات، كوني -وبقدر استطاعتك- ودودة وهادئة وسعيدة بخدمته.
وقبل بلوغه العامين رافقيه أكثر الأوقات: يلعب أمامك ويأكل بحضرتك ويخرج بصحبتك، وقربك منه وكلامك معه لهما أثر كبير على استقراره وهدوئه.
وحين يكبر قليلاً احتويه وتحملي ما يصدر منه، وعبري له عن عواطفك باستمرار، ولا تبتعدي عنه فترات طويلة أو تنشغلي كلياً عنه، ليشعر بالأمان، والأمان سيعطيه الثقة بنفسه والقوة في مواجهة الصعاب.
كوني معه في آماله وآلامه واعرفي معاناته، وهذا مهم ومهم جداً، ولا تستهتري بأحزانه، لأن همومه بحجم عمره، وعجزه عن "تركيب قطع لعبته" قد يعني نهاية العالم بالنسبة له!
وستعرفين آماله وآلامه من تعليقاته وكلامه، واتركيه ليعبر عن نفسه وقت ما يشاء ولا تكبتيه بقولك: "اسكت أو قل بسرعة"، ولا تهمليه وتتشاغلي عن قوله بالعمل فيشعر بالنبذ. فقط ألقي بالاً لكل ملاحظة تسمعينها؛ فإن قال لك ابنك الكبير: "لماذا تطلبين مني دائماً قضاء الحاجات ولا تطلبينها من أخي؟"، فهذه إشارة "غيرة"، والغيرة تتحول إلى عقدة، وإذا سألك أحدهم: "لماذا تقولين -لي أنا بالذات- أنت بطيء؟" فهذه إشارة إلى عقدة نقص قد بدأت تتكون في داخله، وإذا سمعته يقول: "أبي مشغول عني بعمله وأصحابه، وحين أطلب منه شيئاً يقول فيما بعد"، فهذه إشارة إلى شعوره بالهضم والتهميش.
افهميه، فقط افهميه. ولا تلقي عليه المواعظ وهو متأثر أو متوتر.
2- كوني واضحة في كل توجيهاتك، ولا تكوني مترددة ولا فوضوية في طلباتك وأوامرك، لئلا يتحير ابنك، ولهجة حديثك مهمة جداً ليعرف ماذا تريدين: عتاب، غضب..
بَيِّني لصغيرك ما ينبغي أن يكون عليه في نقاط قليلة مفهومة ليتسنى للصبي اتباعها والحرص عليها، وكرريها كلما احتاج الأمر، فالصغير يلهو وينسى، وعلميه كل الآداب في وقتها المناسب (عند الطعام "كل بيمينك"، عند زيارة الأقرباء "اقرع الباب قبل الدخول"…)، وينبغي أن تكون قوانين البيت ثابتة وواضحة للصغير، والممنوع ممنوع في كل يوم وفي كل وقت، وعليه الالتزام بالأوامر القطعية ومن دون تردد، وما يزعجك اليوم هو نفسه ما يزعجك أمس وغداً.
ولأوضح أكثر أقول: لا تسمحي لمزاجك بسوقك إلى تشتيت ابنك، بحيث لو كنت في مزاج جيد سكتِ عن الخطأ وإذا كنت غاضبة نفست عن غلك بضرب الصغير ومعاقبته، فتلومينه على الشيء اليوم وتتركين اللوم غداً، أو تغضبين من صنيعه هذه اللحظة وتبتسمين له لو فعلها بعد ساعات… هذه ذبذبة تُحير الصغير، فلا يعرف حدوده ويظنك هازلة أو ذات انفصام بالشخصية، مثلاً: لا تسمحي باللعب بأدوات الزينة دائماً وأبداً واجعليها قاعدة لا يكسرها أي شيء، وإذا استمر الأمر على نفس الوتيرة يستجيب الصغير ويفهم ويمتنع عن خرق القانون.
وكلما استجاب لأوامرك أو التزم بقوانين البيت والمدرسة شجعيه بالكلام الجميل، فقولي: جيد، أو ممتاز أو رائع أو ظريف.. وأكثري من هذه الكلمات اللطيفة في المواضع المناسبة ليفهم ويمتثل.
الزمي الهدوء قدر الإمكان في تفاعلك وردود فعلك ولا تكوني أماً عصبية تصرخ فجأة وتثور (لكل تصرف) فتُفزع ولدها، وإذا أقدم على أمر لا يرضيك عاتبيه برفق وعلى الفور.
ولك الحق في الغضب والصراخ حين يستحق الوضع، أكرر حين يستحق الوضع (وليكن ذلك قليلاً ونادراً).
3- تحري الأفضل والأصوب في توجيهاتك ولكل صبي شخصيته وطريقته التي يفهمها ويحب التعامل بها، فبعضهم يفهم باللين وآخرون لا يفهمون إلا بالشدة، وبعضهم يكفي تنبيه واحد لردعه وآخرون يحتاجون لعشرات التنبيهات.
فانتبهي لهذه الفروقات، وراقبي صغيرك وادرسي شخصيته، واعقدي مجالس أسرية يومية مع أولادك أثناء تناول الوجبات مثلاً أو في سهرة المساء (لتكوني قريبة منهم ومن مشكلاتهم وهمومهم) فتعاملي كل واحد منهم بالطريقة الملائمة، وتمتصّي العقد قبل أن تنشأ.
ولا تنسي مشاعرك أيام المراهقة وأفكارك المتضاربة والمتناقضة، وابنك المراهق بحاجة لمساعدة أكبر ومساندة أعمق، وتوجيه مبطن، وقد لا يستجيب للتوجيه في تلك الفترة، فاستبقي الحوادث ووجهي طفلك باكراً يلن لك وقت المراهقة ولا يتعبك.
واستعملي أساليب جديدة وطريفة، والمكان والزمان وحالة الولد النفسية لها أثرها، فلا توجهيه أمام أقرانه، ونوّعي في طريقة التوجيه (حسب الظروف المحيطة وحجم الخطأ ووضع الطفل)، فمرة بكلمات سريعة، ومرة بالشرح والتفصيل ومرة بأسلوب مبطن، ومرة عن طريق القصة، ومرة بالتهديد، وأخرى بالترغيب… وهكذا ومع تنوع الأساليب يفهم الصغير.
توقعي الخطأ من طفلك. فالكبار يخطئون وتكثر سقطاتهم فكيف بالصغار الذين لا يعلمون شيئاً؟ هكذا فطرهم الله حتى أطلق بعضهم عليهم مصطلح "الجهال"!
ولا تكثري اللوم إذا أخطأ، ولوميه على أمر محدد ليفهم خطأه وبشكل واضح لا لبس فيه، مثلاً: "كم مرة قلت امسح فمك بالمنديل وليس بيدك أو بملابسك أو بالخبز، تعبت من الكلام، لا أريد أن يتكرر ذلك منك أبداً"، وليكن اللوم في ساعة وقوع الذنب ليؤتي أكله، قولي له كل ما تريدين قوله، ثم انهي الموضوع ولا تكلميه فيه من بعد، إلا إذا تكرر أو جاءت مناسبة.
ويجب أن يشعر الصبي بأنه أخطأ فيؤنبه ضميره، ويجب أن يشعر بالندم لئلا يعود (شرط ألا يسيطر عليه الشعور بالذنب فينطوي)، فإن استحى وأبدى أسفه فارفقي به وتوقفي عن لومه.
4- قدريه وامتدحي مواهبه، خاصة إذا أتاك فخوراً بلوحة رسمها أو شهادة تقدير حصل عليها أو لعبة صنعها بنفسه، وعادة نحن نتجاهله أو نقول كلمتين باهتتين ونلتفت لأعمالنا، والأدهى أننا حين نرى ابننا ماثلاً أمامنا نتذكر شيئاً فعله ونبدأ بلومه ونكدره، وننسجم في اللوم وننسى الإنجاز الذي جاءنا من أجله!
فاهتمي بابنك حين يأتيك سعيداً بإنجازه، وتفاعلي معه وشجعيه بنظراتك وكلماتك، وحبذا لو كانت متبوعة بتعليقات مشجعة أمام الناس. وكلما كبر ونمت ملكاته امتدحي أي تطور أو ناحية إيجابية تظهر في شخصيته.
واسبقي ابنك واكتشفي مواهبه -قبل أن يبديها- من خلال سلوكه، وكل طفل يرنو لشيء وتستهويه أشياء، فساعديه ليحدد "هدفاً" يسعده الوصول إليه، وليكن "الهدف" معقولاً وعلى قدر همته وقدرته، واعملا عليه معاً (مثلاً: يحب الرسم أو الخط) فاشتري له كتباً ليتدرب أو يشترك في دورة، أو يصاحب خبيراً ليصبح ذا مهارة كبيرة. وليخصص جزءاً من يومه لممارسة ما يحب، ثم يتقدم لمسابقة الخط، ولعله يفوز بدرجة عالية. وإذا وجدت منه ضعفاً أو تكاسلاً ساعديه ليستمر، فإن لم يتجاوب فليترك ما هو فيه، ولينتقل لما يناسب طاقته. فإذا فشل لا تدعيه وحده مع اليأس والحيرة، بل ابحثي عن الأسباب أو انتقلي معه لأي نشاط مثمر.
وحفزي ابنك على الأعمال التي يتوقع منه النجاح فيها، واستعملي الإيحاء: "أنت ذكي"، "أنت قادر على فعل هذا الأمر"، "إنك في تحسن، وتتعلم بسرعة". واطلبي منه فعل ما يحسنه على الملأ ليشهد الناس نجاحه ويمتدحوه فتزيد ثقته بنفسه.
أولادنا لا يعرفون مزاياهم وليتنا نُعرِّفهم بها فنساعدهم على الثبات عليها، والاستفادة منها، وندعم ثقتهم بأنفسهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.