عاشت الأمة الإسلامية نحو 13 قرناً تحت مظلة سياسية جامعة منذ العهد النبوي والخلافة الراشدة إلى ما قبل نهاية حكم سلاطين الدولة العثمانية، ثم بدأ عهد الاحتلال الأجنبي المباشر منذ القرن التاسع عشر، وخضعت معظم أنحاء العالم الإسلامي لحكم غربي استمر لعقود طويلة، قبل أن يتلاشى مخلّفاً في العالم العربي عشرات الدول، التي أصبح لكل منها حاكم وعَلَم ونشيد وجيش وشرطة وحكومة ومؤسسات وقوانين ومناهج تعليم مختلفة، وهو ما عمّق حالة الانقسام والتشظي في جسد الأمة.
شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التخلص من ظاهرة الاستعمار، في ظل تآكل قوة بريطانيا وفرنسا، ورغبة واشنطن في تقليص نفوذ الدول الأوروبية، وقطع الطريق على السوفييت في العزف على وتر دعم حركات التحرر الوطني، فتبنّت الأمم المتحدة في عام 1960 إعلاناً يقضي بتصفية الاستعمار. وواكب ذلك انهيار الأنظمة في العديد من الدول العربية، التي انتقلت من الاحتلال البريطاني الذي يفضل الحكم الملكي إلى التبعية لأمريكا، التي فضلت دعم أنظمة عسكرية تقف في وجه الشيوعية الصاعدة، والمد الديني الضارب بجذوره في عالمنا العربي، وبدأت ظاهرة الانقلابات العسكرية بالمنطقة انطلاقاً من سوريا عام 1949، مروراً بمصر في عام 1952، ثم وصلت ظاهرة الانقلاب المدعومة أحياناً من واشنطن وأحياناً أخرى من موسكو إلى العراق والجزائر وليبيا والسودان.
رفعت الأنظمة العسكرية الوليدة شعار القومية العربية، وداعبت أحلام الشعوب في تحقيق استقلال حقيقي، لكنها تعرضت لانتكاسات متنوعة، شملت هزائم متكررة أمام إسرائيل، كما تدهور الوضع الاقتصادي والحقوقي والتعليمي والصحي، وتفكّك التماسك المجتمعي بدرجة كبيرة.
حقبة الجمود
أصيب العالم العربي بحالة من الجمود والتكلس، واكبت بقاء الحكام في مناصبهم لعقود، فحافظ الأسد لبث في مقعد الحكم 30 سنة قبل وفاته عام 2000، فيما لبث مبارك في حكم مصر 30 سنة قبل الإطاحة به في ثورة يناير 2011، بينما نال القذافي منصب عميد الحكام العرب بفترة حكم بلغت 42 سنة قبل مقتله.
وفي حين تلاشت الأنظمة العسكرية من أمريكا اللاتينية، والأنظمة الاستبدادية الشيوعية من شرق ووسط أوروبا ودول البلطيق، فقد سيطرت أماني توريث الحكم لأبناء الرؤساء في الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية، مثلما حدث مع بشار الأسد، وبزغ نجم جمال مبارك، وسيف القذافي، وعدي وقصي صدام حسين، وطارق علي صالح.
ولكن اندلع زلزال مفاجئ عقب حادث انتحار الشاب محمد بوعزيزي في تونس نهاية عام 2010، فسقط عن مقاعد الحكم تِباعاً رؤساء ظنَّ الكثيرون أن الأرض قد تهتز من تحتهم دون أن يهتزوا، مثل زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلي صالح في اليمن، بينما اضطر بشار الأسد للاستعانة بطهران وموسكو للوقوف في وجه الثوار، ووصل الحال في واشنطن بحسب "بين رودس"، نائب مستشار الأمن القومي في عهد أوباما، إلى تكوين فريق في مجلس الأمن القومي من 38 شخصاً لمتابعة ما يحدث، ومحاولة فهم هل هو أمر مشابه لسقوط جدار برلين عندما انتقلت دول أوروبا الشرقية إلى الديمقراطية، أم أنه مثل ربيع براغ عام 1956، أو ميدان تيانانمن في الصين عام 1989، عندما تم قمع الحراك الشعبي بوحشية.
على أرض الواقع، تعاضدت العديد من القوى الإقليمية والدولية في شن هجوم مضاد، وتصاعدت الثورات المضادة بزخم عنيف، انطلاقاً من مصر في عام 2013، ثم ضربت بقوة في اليمن وليبيا، وشهدنا مجازر دموية في حواضر العالم الإسلامي، مثل القاهرة ودمشق وحلب وصنعاء وعدن، وذلك لإرسال رسالة بأن الثورات جلبت مزيداً من القمع والمعاناة.
ورغم ذلك فقد اندلعت موجة ثانية من الثورات في العراق والجزائر والسودان خلال عام 2019، أطاحت بالرئيسين بوتفليقة وعمر البشير، لكن ثمار التغيير لم تسقط في يد الشعوب، في تكرار لما حدث في الموجة الأولى من الثورات، وترسخت لدى البعض فكرة مفادها أن بقاء الأنظمة الاستبدادية في بلادنا حتمية تاريخية، وهي فكرة تتطلب نقاشاً حول مدى صحتها، وبالمثال يتضح المقال، لذا سأتناول الحالة المصرية التي مثلت رأس حربة الثورات المضادة.
مصر إلى أين؟
عقب مرور 9 سنوات من انقلاب 2013 يواجه المصريون تدهوراً في كافة مناحي الحياة، فالأجهزة السيادية تختار أعضاء مجلس النواب بغض النظر عن نتائج الصناديق، ويموت عشرات السجناء السياسيين سنوياً من سوء الرعاية الصحية أو بتنفيذ أحكام الإعدام، ويوجد نحو 60 ألف سجين سياسي بالمعتقلات.
على المستوى الاقتصادي ارتفع الدين الخارجي من 43.2 مليار دولار عام 2014 ليصل إلى 157 مليار دولار في نهاية 2021، وهو ما يضع عبئاً كبيراً على الموازنة، التي استحوذ بند سداد الديون وفوائدها على 54% من إجماليها في العام المالي 2021-2022. وقد أسهم انخراط الجيش في معظم أنشطة الاقتصاد من المقاولات، ورصف الطرق، إلى محطات الوقود، والمزارع، والمناجم، فضلاً عن سجن بعض كبار رجال الأعمال لإجبارهم على التنازل عن شركاتهم، أو إخلاء السوق لصالح شركات الجيش، في تقويض دور القطاع الخاص، وعزوف رجال الأعمال عن الاستثمار، حتى إن مجلة الإيكونوميست نشرت في أبريل/نيسان 2022، تقريراً عن آثار انخراط الشركات التابعة للجيش على القطاع الخاص، وهو ما يرسم صورة سلبية لمصر أمام المستثمرين الأجانب.
وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، أعلن رئيس الوزراء نية الحكومة بيع أصول للدولة بقيمة 10 مليارات دولار على مدى أربع سنوات، بإجمالي 40 مليار دولار، فيما لجأت الحكومة للاقتراض دورياً من أجل سداد القروض القديمة، ما يضاعف أزمتها المالية، حتى إنها اقترضت 23 مليار دولار من صندوق النقد الدولي خلال آخر 6 سنوات، وهو ما انعكس على انخفاض سعر الجنيه أمام الدولار من 7 جنيهات في عام 2013 إلى 24 جنيهاً حالياً، تلك الأوضاع دفعت باتجاه ارتفاع مستويات الفقر، وازدياد نسب الطلاق ومعدل الجرائم.
على الصعيد المجتمعي، أثار رأس النظام في خطاباته بشكل متكرر قضية النمو السكاني باعتبارها عائقاً أمام التنمية، وقال إن نسبة النمو السكاني المطلوب الوصول لها بمصر لا بد أن تصبح 1% لمدة عشر سنوات متتالية، بحيث يبلغ عدد المواليد سنوياً 400 ألف فرد، مع العلم أن عدد المواليد السنوي في 2019 بلغ 2 مليون و382 ألفاً. وكذلك كشف عن نية الحكومة عدم منح بطاقات تموين لأي شاب سيتزوج، وقصر بطاقات التموين القديمة على فردين بدلاً من أربعة أفراد، ومنع بناء المساكن لمدة عشر سنوات سوى ما تبنيه الحكومة فقط، وهو ما يعيق أعداداً ضخمة من الشباب عن الزواج، عبر منعهم من البناء على الأراضي التي تمتلكها أسرهم.
دلالات المشهد الحالي
يتحمل النظام المصري الحاكم المسؤولية عن تدهور الوضع الاقتصادي، عبر تنفيذ مشاريع دون دراسات جدوى، والإغراق في الاستدانة لبناء طرق وكباري وعاصمة إدارية وسجون جديدة، دون العناية ببناء اقتصاد منتج، وهو ما أوقع البلد في مصيدة ديون يصعب أن تخرج منها، ويتزامن ذلك مع تفشٍّ للفساد المؤسسي، فمصر شغلت في عام 2021 المركز 117 في مؤشر الفساد الذي تُصدره منظمة الشفافية العالمية، مع العلم أنه سبق عزل، ثم سجن رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، بعد حديثه عن بلوغ تكلفة الفساد في مصر عام 2015 ما يعادل 70 مليار دولار.
وفي ظل ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والجريمة، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، وغياب أي متنفس سياسي يعبر فيه المواطنون عن معاناتهم وغضبهم، تشكّل المناخ الذي تصاعد فيه مؤخراً دعوات للتظاهر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في ظل تأهب أمني غير مسبوق منذ 2013.
ورغم مرور يوم الجمعة 11/11/2022 دون احتجاجات فإن الأزمة تتعمق، لأن الحد الأدنى من احتياجات الشعب لم يعد متوافراً، وعلاج المشكلة يتطلب تغييراً حقيقياً في النظام السياسي الذي تسبب في وصول الوضع للانسداد الحالي، وهو مشهد متكرر في الدول العربية الأخرى، التي تعيش أوضاعاً شبيهة. إن اندلاع موجة ثالثة من الربيع العربي قضية وقت، لكن الفارق عن الموجتين السابقتين يتمثل في انكشاف حقيقة الأنظمة الاستبدادية بشكل أكبر، وهو ما يرجح زيادة احتمالات حدوث تغيير جذري على حساب التغيير الشكلي الذي حدث سابقاً لفترة وجيزة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.