في تجمع يضم مجموعة من الأصدقاء والأقرباء، لدينا جميعاً أبناء في عمر الطفولة، كان الأطفال يلعبون ويمرحون حتى قامت طفلة أحد الأصدقاء بكسر لعبة عن عمد، نقل الأطفال الخبر إلى أمها، فما كان من الأم إلا أن أخذتها جنباً وأخبرتها أنها ستعاقب بسبب الكسر المتعمد للعبة وأن طريقة العقاب ستتحدد عندما يعودون إلى منزلهم لكي يفكروا في طريقة العقاب، أما الآن فعليها أن تلعب مع الأطفال.
عندما عادت الأم للجلوس معنا حكت لنا الحوار بينها وبين ابنتها، فتدخلت إحدانا سريعاً لتخبرها أنه لا يوجد شيء اسمه عقاب في التربية الإيجابية، مستندة إلى تبرير صحة اعتقادها برأي أحد المشاهير في التربية الذين يقدمون أنفسهم على منصات التواصل الاجتماعي على أنهم مستشارون في التربية، أما أنا فكنت أرى أن الأم لم تخطئ، على العكس فهي تدرب ابنتها على تحمل مسؤولية أفعالها، وفي الوقت ذاته لم تلمس كرامتها بسوء بسبب أنها انفردت بها أثناء الحديث.
اتسعت دائرة الحوار وأدلى كل منا بدلوه، إلى أن وصلنا إلى فكرة الإقناع أو الرفض بفكرة التربية الحديثة، على حد رأي بعض الأمهات.
في السطور القادمة أحاول أن أوضح رأيي كأم في التربية الإيجابية.
التربية الإيجابية
التربية الإيجابية باختصار هي طريقة التربية التي تساعد الطفل لكي ينشأ سوياً نفسياً قادراً على الحياة بطريقة صحيحة وسليمة، طفل يمكنه تقدير نفسه وتعزيزها وحب من حوله.
على الرغم من أن ذلك الكلام قد تراه طبيعياً فمَن مِن الآباء يود لابنه الاضطراب النفسي؟!، لكن للأسف لا ينتبه الكثير من الآباء، خاصة في الماضي، على ما كانوا يتبعونه من أفعال وأقوال في أثناء تربية أطفالهم تربية تؤثر بشكل واضح وكبير على باقي نمط حياتهم طوال العمر.
التربية على الطريقة القديمة
من المؤكد أنك شاهدت تعليقاً على إحدى الصفحات على السوشيال ميديا يؤكد أنه "ما إحنا اتربينا كده وطلعنا كويسين".. وأعتقد أن ذلك التعليق يمكن أن نوضح به آثار التربية الكلاسيكية، فشخص تعرض للضرب والإهانة والصريخ، وتم التعامل معه كأنه أمر عادي نشأ ليرى أن تلك الأمور هي أمر طبيعي، بل يرجع الفضل إليها في تنشئته، وهنا يجب أن يواجه كل شخص من المدافعين عن أساليب التربية القديمة التي لا تنكر الضرب أو التعنيف اللفظي أو النفسي، من قال لك إنك سليم وسوي؟
هل هناك دليل على الاضطراب سوى أن ترى أن العنف الموجه للأطفال أمر عادي وطبيعي وينشأ عنه أطفال أسوياء؟
إن التربية قديماً لم يكن لها مرادف سوى طفل يسمع الكلام، وينفذ كل ما يطلبه أبواه، ولأن ذلك منافٍ لطبيعة الأطفال التي أساسها بشكل كبير التمرد والدلع والرفض، فكان الأبوان لا يستنكران استخدام أي وسائل لترويض أطفالهم.
لعل أكثر الطرق كانت الضرب، فمنذ عقدين من الزمن كان الضرب وسيلة مقبولة وعادية لتعليم الأطفال وتربيتهم، وبالطبع هناك طرق أكثر وحشية من الضرب مثل الربط بالأحبال أو الحرق بتسخين الشوكة وغيرها من الوسائل التي لا أراها الآن إلا أنها أساليب تعذيب خالصة.
لعن الله من أفهم كبار الآباء أن تلك الطرق عادية ومقبولة، وغفر الله للآباء الذين لم يفكروا للحظة قبل استخدام تلك الطرق مع أبنائهم.
ما فعلته بنا التربية الإيجابية
هل فعلاً أفادتنا التربية الإيجابية ومعرفتنا بها؟
بالطبع للتربية الإيجابية الكثير من التأثير الإيجابي على التربية، يكفي أنها زدات من مساحة الوعي، وأشارت إلى الكثير من الأخطاء التي تم ارتكابها في التربية على أنها عادية ومنطقية في أثناء تنشئة طفل.
يكفي أنها تعاملت مع نفسية الطفل على أنها شيء له وجود ويجب وضعه في الحسبان، له تقديره وعليه يجب قياس مردود أفعالنا نحن الآباء.
يكفي أنها علمتنا أن للأطفال حقوقاً وأنهم ليسوا مملوكين لنا نحن الآباء، حتى وإن كنا نحن من علينا تنشئتهم.
يكفي أنها عرفتنا طرق التعامل مع الأطفال، وفتحت لنا الكثير من أبواب العلم والمعرفة للوصول إلى تربية أطفال أسوياء نفسياً لديهم القدرة على حب أنفسهم، لأنه كما نعلم أن الأطفال الذين يسيء لهم الآباء يكبرون غير قادرين على حب أنفسهم.
باختصار إن أفضل ما فعلته التربية الإيجابية في رأيي هو الوعي، الوعي والخروج من دائرة هذا ما وجدنا عليه آباءنا.
هل تطبيق التربية الإيجابية سهل؟
إن سألتني عن أصعب ما في الأمومة على الرغم من رحلتي بها التي لا تصل إلى أربع سنوات، سأقول بدون نقاش هو التربية.
تلك الرحلة الممتدة لسنوات طويلة يؤثر كل ما يحدث بها على مستقبل ووعي الطفل، أما عن التربية الحديثة فلأصدقك القول إن الالتزام بقواعدها يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والذهني والإدراك بأنها الحل الوحيد لتربية طفلك بطريقة سليمة، وأن تقتنع من داخلك بإيمان شديد أن تلك التربية القديمة ليست طرق تربية بالأساس، بل هي وسائل لتنشئة طفل على كتالوج محدد يرسمه الوالدان من الممكن أن يضحيا خلاله بكل شيء حتى تقدير طفلهم لنفسه.
كما أنني للأمانة أرى في طرق التعنيف المتبعة في السابق بعضاً من الأنانية و"ترييح الدماغ"، فبالطبع أمري لطفلي أن يسكت بدلاً من أن يتعرض للضرب أكثر راحة لي من الدخول معه في نقاش قد يمتد لساعات، وهنا الأنانية أني أفضل راحتي عن أثر تلك الطريقة على أبنائي.
لكننا هل نصدق كل ما يقدمه "مستشارو التربية الإيجابية"؟
إحدى مميزات وكوارث عصرنا الحالي هي انتشار السوشيال ميديا، أما عن المميزات فهي تعريفنا مثلاً بالأخطاء التربوية التي عشنا بها، وأنها وجهت أنظارنا إلى العديد من الأساليب والطرق التي تساعدنا في شؤون الأطفال، وأنها يسرت على الجميع الوصول إلى المعلومة ومكَّنتنا من البحث بدقة عن كل تفصيلة نريد المعرفة عنها.
أما عن الكوارث فإنها أتاحت للجميع الكلام حتى فيما لا يمتلك به أي خبرة حقيقية، فكم من مشهور على فيسبوك يقدم نفسه على أنه أخصائي تربوي، أو مؤسس لمنهج تربوي أو مقدم استشارات تربوية، أو استشاري في التربية الحديثة… إلى آخره من التسميات الوظيفية التي عندما تأتي لتتحق من مؤهلات صاحبها فلا ترى إلا قراءته لمجموعة من الكتب وبعض الدورات التي يمكن أن ألتحق بها وأنت وأي شخص على سطح الأرض.
المشكلة الرئيسية في هؤلاء ليس ما يقولونه لكن المشكلة الأكبر في وجود مريدين ومؤيدين عميان لما يقولونه دون أي تفكير، بسبب الرغبة في عدم اتباع الطرق القديمة في التربية فيبالغون في الاتجاه المضاد تماماً دون أي إعمال للعقل.
المشكلة في ذلك الاتباع أمران؛ أولهما أن هناك الكثير ممن يقدمون أنفسهم على أنهم متخصصون لا تتعدى أفكارهم سوى كونها آراءهم واعتقادتهم الشخصية، مثلاً أنا لا أحب مطلقاً أن يقبل ابنتي أحد لتوفير مساحة أكبر من الأمان لها ولتعويدها على أن جسمها ملك لها، لكنني لا يمكنني بحال أن أشيع على الناس أن ذلك قاعدة من قواعد التربية الإيجابية.
الثانية أنك إن تابعت كل الأقوال فستجد منها أقوالاً متضادة في بعض الأحيان، لعل أشهر أمثلتها هو التصرف الصحيح حيال بكاء الطفل- تلك المشكلة وقعت بها نفسي بفترة- هناك مدرسة تقول لا تتركي الطفل يبكِ، عليك أن تتفهميه وتحتضنيه، وهناك قول آخر يقول لك لا تهتمي ببكاء الطفل حتى لا يعتبرها وسيلة ضغط عليك لتحقيق ما يريد، المدرستان متضادتان في الظاهر، ويمكن لأي شخص من مريد أي مدرسة أن يرى خطأ الطريقة الأخرى.
ماذا نفعل إذاً؟
أعتقد أنني وجدت الحل الذي نفعني على الأقل وهو التفكير المنطقي ومحاولة الوصول إلى متخصصين حقيقيين في التربية وأساليبها، كما أنني أتخلص من الخوف الزائد من الوقوع في أخطاء التربية القديمة فأبالغ في اتباع أي رأي في التربية الإيجابية دون تفكير.
كلمة أخيرة
التربية تجربة صعبة للغاية وبها الكثير من المسؤولية، الخطوة الأولى بها هي الإدراك والوعي: الإدراك بأخطاء الماضي والوعي بما يجب أن نتبعه.
الخطوة الثانية: هي التحلي ببعض المرونة؛ لأن الوقوف على كل تصرف مهما كان تلقائياً، من الممكن أن يعرِّض الآباء للضغط الشديد؛ مما يهدد بالانفجار في وجه الأبناء في أحيان كثيرة، أخطأت في حق طفلك عليك بالاعتذار ومحاولة تجنب الخطأ، لكن لا تقف عن الخطأ نفسه لأن هذا لا يفيد، المفيد حقاً هو التفكير في طرق تجنبه ومسامحة نفسك على أخطائك، ففي النهاية كلنا بشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.