لطالما كانت تركيا حليف الغرب، ولكن بعد وصول حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسه الرئيس أردوغان، إلى الحكم، غيرت تركيا سياستها الخارجية منفتحة على الجميع، وهذا ما جعل منها اليوم الرقم الصعب في المنطقة والعالم، ولا يمكن تجاهلها.
العلاقات التركية الغربية بين الهبوط والصعود
منذ تأسيس الدولة التركية عملت تركيا على أن تكون جزءاً من الغرب؛ حيث ربطتها به علاقات قوية، كانت تركيا تطمح بشكل دائم للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، كما أنها كانت حليفاً مهماً للولايات المتحدة التي أخذت من الأراضي التركية موقعاً لقاعدتها الجوية والتي زودتها بدورها بأسلحة نووية.
تركيا التي تمتلك ثاني أكبر جيش داخل حلف الناتو بدأت علاقتها بالغرب بالتدهور بعد وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحكم، ووضع تركيا سياسة خارجية جديدة تطمح من خلالها لجعل تركيا قوة إقليمية ذات قرار مستقل، لكن هذه السياسة لم تعجب الغرب، حتى إن الرئيس الأمريكي جو بايدن وعد أثناء حملته الانتخابية بإسقاط الرئيس أردوغان، كذلك خرج العديد من القادة الأوروبيين ينتقدون سياسة تركيا الخارجية والداخلية، متهمين أنقرة بتقييد الحريات، بالمقابل اتهمت أنقرة دولاً أوروبية والولايات المتحدة بدعم منظمات إرهابية بدول الجوار لتركيا وظلت العلاقات متوترة بين الطرفين بهذا الشكل، حتى أتت الحرب الروسية الأوكرانية.
شكلت الحرب الروسية الأوكرانية أزمة اقتصادية واجتماعية لأوروبا، حينها تدخلت تركيا واستطاعت بفضل سياستها الخارجية الناعمة أن تكون على مسافة واحدة بين طرفي النزاع.
لم تشارك تركيا العقوبات الغربية على روسيا، لكنها بالمقابل رفضت الحرب الروسية على أوكرانيا، بل وزودت أوكرانيا بالطائرات المسيرة، حينها أدرك الغرب بعد عدة أهداف استطاعت أنقرة تحقيقها على الاعتراف بدورها وأهميتها في المنطقة.
واستطاع الرئيس أردوغان تحقيق انتصار سياسي بعد اقناع طرفي الحرب بالوصول إلى اتفاقية الحبوب التي من خلالها عادت صادرات الحبوب تخرج من الموانئ الأوكرانية إلى العالم، كما أنه استطاع جمعهم على طاولة مفاوضات واحدة أدت إلى التخفيف من حدة الصراع.
بعد هذا بدأت تخرج تصريحات القادة الأوروبيين والإدارة الامريكية التي أشادت بدور تركيا المهم، وتؤكد على أهمية وجود تركيا داخل حلف الناتو، ليس هذا فحسب، بل أفرج الكونغرس الأمريكي كذلك عن صفقة طائرات F16 التي كانت قد أوقفتها أمريكا بسبب العقوبات الأمريكية على تركيا بعد شرائها منظومة الدفاع S400 من روسيا.
لقد استطاعت تركيا إعادة فرض نفسها أمام الغرب، وأثبتت أنها رقم صعب لن يستطيع الغرب تجاهله بعد اليوم.
روسيا خصم الأمس صديق اليوم
خلال الحرب الباردة كانت تركيا بمثابة درع الغرب أمام التمدد السوفييتي، وبعد انتهاء الحرب بقيت تركيا حليفة الغرب الأقرب إلى الحدود الروسية، بعدها وصل التوتر بين روسيا وأنقرة إلى أعلى درجاته بعد أن أسقطت أنقرة طائرة حربية روسية اقتربت من حدودها مع سوريا، بعدها أدركت تركيا أهمية روسيا لمواجهة الجماعات الإرهابية التي أخذت من الأراضي السورية موقعاً لها بعد الثورة السورية، حينها بدأ التقارب والتنسيق التركي الروسي بالاتفاق على إعادة فتح الطريق الدولي في سوريا، كما أنهم اتفقوا على إقامة مناطق آمنة في سوريا عملت على تأمين حدودها كل من القوات التركية والروسية.
أنشأت كذلك تركيا مع روسيا خط الغاز لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عن طريق تركيا، ما أدى إلى تقوية العلاقات بين الطرفين بشكل أكبر، وبعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية كانت تركيا هي الدولة الوحيدة من القوة الغربية ودول الناتو التي استطاعت أن تكون على مسافة واحدة من الغرب وروسيا.
لقد ساهم هذا التقارب بالوصول إلى الاتفاقات والنتائج السابقة، وأصبحت العلاقة بين الدولتين قوية ومتينة؛ حيث إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد على أن السبب الأساسي لعودة اتفاق الحبوب إلى العمل بعد الهجوم الأوكراني على روسيا هو وجود تركيا كضامن، كما أن روسيا اقترحت أن تكون تركيا منصة لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، وأكد الرئيس الروسي ثقته التامة بالرئيس أردوغان، كما أن التبادل التجاري بين الدولتين قد ارتفع في السنة الحالية؛ ما يؤكد أن تركيا بالنسبة إلى روسيا أصبحت دولة ذات ثقة وأهمية استراتيجية كبيرة.
سياسة خارجية متوازنة نتيجتها قوة إقليمية ذات أهمية عالمية
بالاستناد على العوامل السابقة نستطيع القول إن تركيا استطاعت فرض نفسها على أنها قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، كما أنها أصبحت الرقم الصعب بين الدول الكبرى، لقد حافظت على مصالحها الخاصة، كما أنها كانت سبباً رئيسياً لإخراج العالم من أزمة غذائية كانت ستطال جميع دول العالم؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. لقد زادت الحرب الروسية الأوكرانية من أهمية تركيا لدى أوروبا، وذلك بسبب الحاجة الأوروبية الكبيرة إلى الغاز الروسي واعتماد تركيا كمركز لتصديره، كما أن الولايات المتحدة أدركت أهمية تركيا الإقليمية، وأن أي حوار بين الغرب وروسيا لا يمكن أن يمر دون وجودها على رأس الطاولة.
فهل ستستطيع تركيا تحقيق رؤيتها 2023 التي تهدف إلى جعلها قوة إقليمية وعالمية في ظل التغيرات المستمرة في العالم والصراعات الداخلية والانتخابات الرئاسية القادمة؟ لا أحد يعلم ما تتجه السياسة في المستقبل، ولكن الذي نستطيع تأكيده أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، كما صرح وزير الدفاع التركي بأن المارد قد استيقظ ولن تعود تركيا إلى الوراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.