إن قراءة المستقبل تصبح سهلة، وميسورة، إذا كانت قراءة المعطيات سليمة وتتوافق مع القراءة التاريخية، والآنية للأحداث، أما إذا تعثر فهْمُنا لتلك المعطيات فسنكون مثل الساحر الذي يمشي على الماء خادعاً جماهيره وسط أفواههم الفاغرة والتي تظن وهماً أن ما تراه حقيقة.
وعندما تمر الأيام يتضح لتلك الجماهير المخدوعة أن الساحر لم يكن يمشي على الماء بل على لوح زجاجي وسط الماء مستغلاً "عكارة" الماء، لإخفاء اللوح الزجاجي والطبيعة الحقيقية للساحر نفسه، والقائمة على الخداع.
لذلك، فإن التعامل مع الدعوات الداعية للخروج يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي أشبه بدعوة الساحر للجماهير حتى تراه يمشي فوق الماء، في مقابل دعوات لعدم الخروج تشبه من يحاول الحفاظ على عكارة الماء.
واختلف الفريقان وتنابزوا بالألقاب، ولم يلتفت أحد إلى الجماهير التي تقف حائرة على شاطئ النهر، يثيرها ويلهب مشاعرها المشي على الماء، وفي الوقت نفسه تخشى نقاء الماء الذي سيضعها أمام المستقبل، وهي بعد لم تتعلم التعامل مع حقائق الأشياء.
المعارضة المصرية
فالمعارضة أشبه ما تكون بساحر، يلهب حماس الجماهير الغاضبة، التي تريد أن تعبر النهر للجهة الأخرى، والتي تنشد عليها الحياة الرغدة والميسورة، وهو يعدهم بأن لا يخافوا لأنهم سيعبرون النهر مشياً على الماء بدون أن تبتل أرجلهم محطمين كل القيود، والأغلال التي تعوق حركتهم.
وهي بذلك تجعلهم يرفلون في الفقر، والجوع، والمرض، مخفياً عنهم حقائق الأشياء التي لا يستقيم معها المشي على الماء، وفي الوقت نفسه مخفياً حقيقة أهدافه الحقيقية التي تستغل عكارة الماء لتصبح بالنسبة للجماهير لوح الحقيقة الذي يمشون عليه في الماء، وهي بذلك تجعل غشاوة على أعينهم يستحيل معها استبيان الحقيقة الكاملة.
والمعارضة إذ تستغل عكارة الماء لصنع لوح زجاجي للحقيقة لعبور الجماهير عليه من كلمات ثورية، تداعب أحلام الفقراء، والمحتاجين، لهو لوح إدانة لها إذا زالت عكارة الماء، واستبان كل شيء أمام الجماهير.
فسترى الجماهير معارضة متماهية مع الأوهام، تحمل طموحات، وآمال الجبال وهي بعد لا تقدر على أي شيء، متناسية أنها أضاعت كل الفرص التي أتيحت لها قديماً وحديثاً فرصةً تلو الفرصة.
وفي كل مرة نراها تريد الجماهير أن تحملها إلى كرسي العرش دون أن تقدم لتلك الجماهير أي مضمون حقيقي، وتناسوا أن الجماهير عندما تصدق نوايا المعارض أياً كان موقعه في السلطة أم خارجها، فإنها تجد نفسها مدفوعة للحركة الذاتية دون دعوات مثلما حدث مع الزعيم أحمد عرابي، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر، والشباب في 25 يناير.
أنصار نظام السيسي
أما النظام، ومن يناصرونه فهم أشبه بمن يريد أن تستمر عكارة الماء، ولا يريدون أن يتماهوا مع حقائق العصر من الشفافية، وأساليب الحكم الرشيدة القائمة على المشاركة المجتمعية، يحاولون دائماً أن يقنعوا الجماهير بأن عكارة الماء هي ما اكتسبت أيدي الناس من ثورتهم على الأوضاع السابقة، والتي استقرت لسنوات طويلة.
ولا يزالون يرون أن المضي قدماً في سياسات ما مضى هو طوق النجاة، وليس لوح زجاج المعارضة الذي سرعان ما سيتكسر وتقع الجماهير في الماء وتزداد عكارة الماء؛ لذلك عليهم أن ينتظروا إلى أن تتدفق في النهر مياه جديدة، ووفيرة تزيل أثر الطين في الماء، وتنتظر الجماهير ثم تنتظر وطال الانتظار.
موقف الجماهير من الفريقين
أما الجماهير فتقف حائرة، زائغة العيون، تؤلمها حركة الأمعاء التي تكاد تلامس الجوع، مع خوف من مستقبل يداعبها، ولا تقدر على الوفاء بمتطلباته.
فهي بين ساحر يُمنيها بأنه قادر على أن يعبر بها الماء على لوح من الحقائق المخفية، والتي لا يستطيع البوح بها ليظل في نظرهم ملهمهم الأوحد.
وبين نظام ومناصرين يتكلمون بلغة ابن سيدنا نوح عندما جاء الطوفان: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، وأن انحسار الماء سيكون نهاية المطاف، وسيبقون هم في النهاية يحكمون.
لذلك فإن قفزاً لما بعد 11/11 لفهم ما يحدث، وسيحدث، لهو محاولة استقرائية للمستقبل أرجو أن أساهم ولو بالقدر اليسير فيها.
فماذا سيحدث لو نجحت أو فشلت دعوات التظاهر؟
أعتقد أن النجاح أو الفشل لن يغير من طبيعة الأمور شيئاً، فالمعارضة فاشلة بامتياز تبحث عن أدوار، دون أن تقدم حلولاً، وخيارات للمستقبل.
وليس لديها أي نوع من الإبداع في المقابل تتماهى مع ما هو قائم وتقع أسيرة له مثلما وقعت في حب إطلاق الأرقام على الثورات التي تدعو لها مستلهمة نجاح الأرقام كعناوين للثورات المصرية، ولم تقدم المعارضة شيئاً يدفع الجماهير للالتصاق بها كما حدث آنفاً في الماضي والماضي القريب.
وكذلك النظام الذي يصر على المضي قدماً في سياسات قديمة ثار عليها الناس منذ سنوات قليلة، ولم يعد قادراً على إبداع سياسات جديدة، كما المعارضة مستغلاً أوضاعاً إقليمية، ودولية، لتبرير ذلك على الصعيد الداخلي.
أما الجماهير فهي تلك الجماهير الحائرة، دائماً بين دعوات للتظاهر لم تختبرها تدعوها للمستقبل، والثورة على أوضاعها البائسة، وبين من يدعوها إلى الانتظار أملاً في تغير الأحوال إلى الأفضل، ولو بعد سنوات قليلة، بديلاً عن الفوضى التي تعم الجوار.
وأياً ما كانت نتيجة ما بعد 11/11 بالنسبة للمعارضة أو النظام، فإن الحال لن يتغير كثيراً اللهم إلا على الصعيد الاقتصادي الذي سيزداد سوءاً حتماً.
أما على مستوى الدعوات للدخول للمستقبل، فإنني أرى أن المعارضة والنظام غير راغبين في الدخول إليه، أو لنكن أكثر دقة ليست لديهم الرؤية ولا الخبرة ولا التصورات التي تجعل من المستقبل القادم أسلوب عمل حالياً، يشجع الجماهير، وفي القلب منها الشباب المصري، على الانخراط في التنمية الاقتصادية، والسياسية لصنع المستقبل..
وفي الأخير، أنصح الجميع بأن يقفزوا إلى ما بعد 11/11، وأطلقوا لخيالكم العنان، وفكروا في شكل المستقبل بدلاً من اجترار أساليب قديمة لا طائل منها.
وتذكروا معي كلمات "إيريك هوفر" في كتابه "المؤمن الصادق" عندما قال: "إن الذين يحاولون تغيير أمة ما أو تغيير العالم، لا يستطيعون تحقيق هدفهم بتوليد التذمر واستثماره أو بإثبات أهمية التغييرات المنشودة/ وضرورتها أو بإجبار الناس على تغيير أسلوب حياتهم، وعلى الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة، وليس من المهم أن ترتبط هذه الآمال بجنة سماوية أو بجنة على الأرض".
الآمال الجامحة يا سادة، التي تؤطرها الرؤية المستقبلية، هي طوق النجاة أيها المعارضون والمؤيدون..
غير هذا فالساحر وعكارة الماء يحكمان فكر الجماهير الذين لم يستطع أحد من علماء الاجتماع أن يحدد متى وأين يثورون؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.