هناك رأسان للدولة المغربية يسيّران القرار السياسي الداخلي والخارجي للبلاد، القيادة الفعلية للدولة ممثلة في الملك محمد السادس، ورئيس الحكومة وقد كان يسمى في الدستور السابق الوزير الأول قبل 2011.
هذه القطبية الثنائية المعقدة، تجعل كل محاولة لفهم السياسة التدبيرية للبلد، ضرباً من التحدي و"الضبابية"، ومن هنا يمكن استيعاب المفارقة القائمة بين الانتصارات على مستوى السياسة الخارجية، التي يحققها وزير الخارجية ناصر بوريطة في ملف الصحراء مثلاً والعلاقات الخارجية عموماً، وبين نكبات السياسة الداخلية التي يعيشها المواطنون المغاربة، بفعل ارتفاع الأسعار في كل المواد الحيوية، وغلاء المعيشة الذي يضرب في صميم الصراع من أجل البقاء والحفاظ للكرامة.
ويزداد موضوع هذه الثنائية غموضاً حتى تصل حد الانفصام، وتزداد تعقيداً حين يتعلق الأمر بقطاع التعليم "المعقد" أصلاً، فلقد ازداد وضع التعليم في المغرب تشوشاً، واختلالاً، منذ قرار العمل بنظام التعاقد في القطاع العام سنة 2016، والذي أثار جدلاً واسعاً وتسبب في أزمة بين الحكومة والأساتذة، بسبب ما يراه البعض "توظيفاً جهوياً" للقرار.
يأتي ذلك بعدما جعل القرار التعاقد مع الأساتذة من اختصاص الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وهي الجهة المشرفة على قطاع التعليم بالبلاد.
وهو ما يعني أن المعلمين والأساتذة المغاربة باتوا غير موظفين مع الدولة بشكل رسمي، بل متعاقدين مع أكاديميات جهوية، كما لو أنهم يعملون في القطاع الخاص.
فمع أي خطأ بسيط يمكن الآن فسخ عقد الأستاذ، بإشارة من مدير الأكاديمية المتعاقدة معه، وهو ما جعل المنتقدين يتساءلون عن الأسباب التي تقف وراء تكليف هذه الجهة بالإشراف عن قطاع حساس هو التعليم؟
ويرى القائمون على القرار، والمؤيدون له، فيه قراراً سيادياً، واختياراً استراتيجياً للدولة، جاء بعد قرار حكومي آخر بتعيين المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في المغرب عام 2014.
غير أن أنصار هذه الفكرة تغافلوا أنهم بذلك يرسخون لدولة تتعامل مع قطاع التعليم كقطاع "لقيط"، و ترمي به في حِجر الحكومة، وهي بذلك تضرب في واحد من أعمق التعريفات الجوهرية الحقيقية للدولة كمؤسسات سياسية عامة، بحسب ما روج له جهابذة الفكر السياسي الحديث والمعاصر من هوبز؛ وروسو وصولاً إلى راولز.
أما المعارضون لنظام التعاقد مع الأساتذة، فيرون فيه امتداداً طبيعياً لسياسة التقويم الهيكلي، وضرباً للإصلاح المدرسي، التي تبنتها الدولة المغربية في القرن السابق بناءً على إملاءات صندوق النقد الدولي، وقد نصح الصندوق حينها بالتقليل من كتلة الأجور، ورفع الدولة لليد عن قطاعات غير مُربحة كي تبقى في إطار التنافسية بين الخواص.
وهذا ما ظهر في المادة 135 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كوثيقة مرجعية في سياسة الدولة تجاه التعليم، تلك المادة التي تنص على أن الدولة ستصبح مجرد مشرف ومنظم للعلاقة بين الشّغيلة والمشغلين.
وتوجد بالمغرب أكثر من اثنتي عشرة إدارة جهوية وأكاديمية، ويخول الدستور لكل جهة إدارة قطاع من القطاعات المختلفة، وكان التعليم من نصيب الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، والتي صب عليها بعض المعارضين لقرار التعاقد جام غضبهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.