نحن في الخامس من مارس/آذار سنة 1936، بقرية "تدافالت"، نواحي تنغير جنوب شرقي المغرب، كانت خالتي "خدجو ونون" في ثياب العروس استعداداً لزفافها إلى زوجها "موحند طبيب"، غير أن فرحتها التي تراود كل شابة في مثل عمرها لم تكتمل، إذ تحولت فجأة إلى هلع وفزع وفوضى، ففي غفلة من الجميع، اقتحم الغرفة التي كانت تجلس فيها جنود مدججون بالبنادق بحثاً عن المقاوم الأمازيغي "زايد أوحماد" ورفاقه، وذلك بعدما ظنوا أن أحدهم لجأ إلى تلك الحيلة كي لا يُقبض عليه، فتدثر بلباس العروس تخفياً.
لم يكن المشهد لقطة من فيلم رعب، ولا منظراً من نقطة تفتيش أمنية، عندما رفع الجندي غطاء الرأس الأحمر الذي ترتديه العرائس في هذه المناطق، والمعروف محلياً بأعبروق، بفوهة بندقيته، فإذا بها شابة في غاية الحسن والبهاء، إنما كان مرأى واقعياً لم تتخيله سلطانة ذلك اليوم ومعها أهل تلك القرية الوديعة، التي تحولت بسرعة البرق إلى ما يشبه سجناً محاصراً بعشرات الجنود من كل الجهات.
لم يستوعب الحضور ما الذي يجري، لأنه لا أحد من سكان تدافالت- كما تُجمع على ذلك الروايات المتداولة- كان يعلم بدخول زايد أوحماد إلى قريتهم، ما عدا عائلة أيت حسو، الذين استقبلوه في منزلهم.
انسحب المخزني ومن معه من الفرنسيين وأعوانهم إلى حال سبيلهم، بعدما تيقنوا أن الأمر لم يكن يتعلق بالمطلوب رقم واحد لديهم، انصرفوا وقد تركوا في نفْس خالتي خدجو جرحاً غائراً، ظلت تحكي عنه إلى حين وفاتها رحمها الله سنة 2007.
لقد قُدر لها، ويا لسوء حظها، أن يتزامن يوم زفافها مع اليوم الذي زحفت فيه فرنسا بالعشرات من الشاحنات والسيارات العسكرية، تحمل الجنود من مختلف الرتب والأعوان والجواسيس، وهو اليوم نفسه الذي أجلى عن ستة أو سبعة أشخاص؛ منهم زايد أوحماد ورفاقه الثلاثة، كما تقدم في الحلقات السابقة، واثنين أو ثلاثة من المخزنيين المغاربة المجندين لدى فرنسا.
"مهما كلف الأمر وبأي طريقة كان، يجب أن نصل إلى زايد أوحماد، العقل المدبر لكل العمليات القاتلة التي نُفذت ضدنا"، هكذا كان لسان حال فرنسا وهي تبحث عن المطلوب الأول لديها بين 1934 و 1936.
تحكي الروايات الشفوية المتداولة إلى اليوم بين سكان هذه القرية، التي كانت مسرحاً لتلك الأحداث، ومنها رواية علي طبيب، حفيد هذه العروس؛ أنه وفي غمرة البحث والتقصي الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا جماداً ولا متحركاً إلا فتّشه وشكك في أمره، قام مجندو فرنسا باقتحام حفلة زفاف جدته بحثاً عن زايد أوحماد، حيث تجرأ أحدهم على نزع الغطاء الذي كان يغطي وجهها بفتحة بندقيته، للتأكد من أنه ليس هو، ليس زايد أوحماد أو أحد رفاقه هو المتنكر في زي عروس.
عمّت الفوضى بيت العروس، وماج المدعوون وهاجوا، كيف لا وفرنسا كانت تبحث عن أي ذريعة لنشر الرعب والخوف والهلع في نفوس الناس، دون تمييز بين النساء أو الرجال أو الأطفال، وإثبات وجودها بأي طريقة.
"لم يكتفِ جنود فرنسا بالتأكد من هوية العروس، بل استولوا على لوازمها وكل الهدايا المقدمة لها، لينتقلوا بعد ذلك للاستحواذ على ممتلكات بعض الجيران، مما كانوا يختزنونه من مؤونة وطعام وأعلاف وماشية"، يضيف علي طبيب، حفيد هذه العروس التي أفسدت عليها فرنسا يوم عمرها.
سنة 2007 توفيت المرحومة خدجو نايت نونو، التي كدر عليها عملاء فرنسا زفافها، الذي كان من المفترض أن يكون أجمل لحظة في حياتها، وأروع يوم كانت تنتظره فيما تقدم من عمرها.
ماتت خدجو وفي قلبها غصة وحرقة، ظلت تحكيها للجيران والزوار والباحثين في تاريخ المنطقة كلما جاء أحدهم للاستماع لروايتها، ماتت ومات معها عشرات ضحايا التعذيب والتقتيل، الذين لم يفعلوا شيئاً لا بأيديهم ولا بأرجلهم، ماتت ولا أحد يذكرها، ولا أحد أنصفها، لا من كُتاب التاريخ ولا من المسؤولين الذين من واجبهم البحث وردّ الاعتبار لها ولأمثالها ممن دفعوا الثمن بلا ذنب ولا جرم، حتى قريتها تدافالت، التي ارتبط اسمها بالمقاومة كما هو الشأن بالنسبة للعديد من مناطق الجنوب الشرقي، لم تستفد شيئاً من التنمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.