لو لم نكن نعرف فلسطين ونظرنا إليها من الأعلى، وتمكنّا بطريقة ما من الاستماع لما يدور في خلد أولئك الناس الذين يعيشون على أرضها حين يفكرون بها وبأحوالهم، من فلسطينيين بكل مكوناتهم وشرائحهم حتى أولئك اليهود السامريين الفلسطينيين، إلى اليهود المحتلين بكل مكوناتهم من صهاينة وتجار وعمال لا يلتفتون للسياسة بالمرة، إلى المتطرفين والدينيين المنقسمين على أنفسهم، والسياسيين المتناحرين والعسكريين الحيارى، لاستطعنا أن نكوّن مفهوماً عاماً مبدئياً عن هذه الأرض من خلال فكرة جمعية مشتركة داخل أدمغة هذا المكون البشري المختلف، وهي أن هذه الأرض محتلة ويقطنها شعب أصيل وهم الفلسطينيون، وشعب دخيل محتل وهم اليهود، كل اليهود على أرض فلسطين يعلمون ذلك، حتى لو كان في أدمغتهم فحسب ولا يستطيعون البوح به.
لكن حين ننزل إلى أرضها ونجوب شوارعها وأزقتها وحواريها ومدنها العتيقة والحديثة ونستمع لإذاعاتها، كل إذاعاتها، ونقرأ صحفها، كل صحفها، ونشاهد برامج محطاتها التلفزيونية، كل المحطات وكل البرامج، لتمكنّا من أن نحدد روايات ثلاث لا يمكن أن نجد رواية رابعة إضافية بالمرة.
رواية الصهيونية
وهي رواية اليهود، رواية الاحتلال، والتي سنكتشف فوراً أنها هشة مهزوزة وغير منطقية، رغم أنه استمر يرويها طيلة 74 سنة وبزخم هائل، لكنها تصطدم في كل مرة حين تجد ما يدحضها، سواء على أرض فلسطين أم في باقي أنحاء العالم، فأكبر عدو لهذه الرواية هو المنطق، وكم لا يحصى من الحقائق، إنها رواية هشة بالقدر التي لم تؤثر حتى على أولئك اليافعين والفتية الفلسطينيين الذين لم يعاصروا حتى الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى عام 2000، ولكنهم يدفعون أعمارهم اليوم ثمناً في سبيل الدفاع عن وطنهم وتاريخهم وقضيتهم العادلة، حين أراد الاحتلال منذ تأسيس كيانه إنشاء جيل فلسطيني كامل يكون قد تعود على الاحتلال، ويكون قد سلّم بواقعه، لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، وهو اليوم يرى فشله يتجسد أمامه بشكل قوي لا يستطيع إخفاءه أو تزييفه أو تحريفه كما كان يصنع في السابق.
رواية السلطة
وهي رواية ليست هشة فحسب، ولكنها تتحمل كماً هائلاً من التفاهة والضعف والسفه، وهي كذلك رواية تعادي المنطق والحقائق، بحيث لم يعد من أحد يستمع إليها اليوم بالمرة، هي رواية السلطة ومسؤوليها ورواية أولئك الذين يدورون في فلكها كالمنتفعين والمتسلقين والمستفيدين، وهي فئات موجودة بكل شعوب الأرض ولها روايات تافهة فاسدة، هي رواية جعلت السلطة تخسر كل شعبيتها التي صنعها في السابق ياسر عرفات من خلال المقاومة الناعمة والتغذية البطيئة واتخاذ المعارضة كسلاح، لكنها كانت ستفشل على أية حال لأن اليهود يتجبرون على مَن يُهادنهم، حتى جاء محمود عباس بروايته الانبطاحية المخجلة.
رواية المقاومة
وهي رواية فذة، بل هي الأقوى على الإطلاق بين الروايات الثلاثة، والأكثر تأثيراً، ترويها المقاومة الفلسطينية، سواء تلك المقاومة المنظمة التي لها أذرع وقادة ومخططون ومنفذون وأدوات وجيش من المقاومين، أو تلك المقاومة التي يشكلها جيش عريض آخر من الشباب واليافعين والفتية والذين يقومون بتنفيذ عمليات بشكل فردي عفوي، وهي أقوى رواية فلسطينية ترد على الرواية الصهيونية الهشة التي باتت تكشف هشاشتها شعوب العالم الغربي التي خُدعت بها طويلاً مِن قادتها وسياسييها، والآن تضغط تلك الشعوب على حكوماتها كي تنتهي عن تقديم الدعم لهذا الكيان المجرم العنصري المخزي كما حصل مؤخراً بأستراليا، وتكمن قوة هذه الرواية التي يقودها شباب يافعون منذ حرب السكاكين عام 2015 وحتى اليوم من كونها تعبر عن العقل الجمعي للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وهي تعبر كذلك عن مخ المنطق البشري والكوني، فهي رواية ذاك الشعب الذي ظل يرفض فكرة كونه محتلاً لزهاء 70 عاماً وما زال، وها هو اليوم يعبر عن رفضه بقوة أمام العالم أجمع، خالقاً أسئلة ملحة أمام تلك الشعوب التي غُيبت طويلاً، لتُصدم وهي تكتشف الإجابات.
بعيداً عن التحليلات العميقة والمصادر الصحفية ومقالات الكتاب والمفكرين والمثقفين، والتي تصب في النهاية بالتسليم بقوة الرواية الفلسطينية الفذة الثالثة، لكن ها هي الرواية الفلسطينية الأقوى، والتي لم تدحض فقط الرواية الصهيونية التي تتعرض لانهيار دراماتيكي اليوم، ولكنها تُصدِّر القضية الفلسطينية لأقاصي الأرض رغماً عن السياسيين، ورغماً عن المطبعين، ورغماً عن الإعلام الموجه القوي الضخم الذي لم يعد يقوى على الصمود أمام إعلام وسائل التواصل الاجتماعي المباشرة والسريعة والصادقة، كيف لا ومهندس كل عمليات التطبيع الأخيرة، بنيامين نتنياهو، يقبع اليوم خارج الحياة السياسية بالكامل، تلك التطبيعات التي دمرتها رواية المقاومين الشباب بحيث لم يعد لا هو ولا تطبيعاته مقنعاً لشعب الصهاينة، بحيث فشل فشلاً ذريعاً في الانتخابات، حتى خلفه في الحزب وفي رئاسة الحكومة، نفتالي بينت، ها هو الآخر اليوم خارج الحياة السياسية بالكامل، هذا هو مفعول الرواية الفلسطينية الأقوى التي تتمثل بمقاومة اليافعين.
في السابق قال مارك توين، يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها، ويقول اليافع الفلسطيني، تستطيع الرواية الفلسطينية أن تدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الرواية الصهيونية حذاءها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.