في نشاطه التواصلي مع وسائل الإعلام لمح مغني الراب طوطو إلى أن مستويات عطائه مرتبطة بتناول مخدر الحشيش، وبرر بأنه يباع عند الدورة فقط، وهو ما سيستقر عميقاً فيفعل فعله في وعي نفوسٍ ما زالت تتلمس طريقها في الحياة، وأخرى قد خرب مخدر الحشيش جسدها، ونهب جيبها، ومنها من دفعت أسرته غالياً عواقب إدمانه.
لقد نسي طوطو كل الأشياء الجميلة الموجودة قبل وبعد الدورة التي يباع بها الحشيش، حيث هناك الرياضة والقراءة والعمل التطوعي والسباحة والخرجات البرية، وهناك الفنون الجميلة؛ لكنه اختار بملء إرادته تجاوزها، ليرسو عند الخمر والحشيش ملقياً بالمسؤولية في ذلك على توفرها، وليس على نوعية شخصيته وفكره.
بعد ندوته بأيام حل طوطو ضيفاً في برنامج إذاعي؛ حيث أنكر عليه المضيف تقديم القدوة السيئة للمراهقين في المجاهرة بالخمر والمخدرات، فرد بأن عليهم تقليده في النجاح الذي حققه في الحياة، وليس بالضرورة تقليده في ذلك.
هنا نجد مفهوماً شاع عن النجاح بأي وسيلة، حين يُعرِّف الكبار في جلساتهم أمام الصغار بأن النجاح هو الثراء، وإن كان متحصلاً من الرشوة أو من تجارة السموم المادية واللامادية، وهو مفهوم سام ينبت بيسر في عقول الأجيال مثله مثل مفهوم آخر صورت العبطية والاستهبال بأنهما من مقومات النجاح في الحياة وفي رفع تحدياتها، الذي روجت له السينما العربية فرفعت عالياً مكانة نجومها، ولم يكن ليضر وجوده كلون بين عدة ألوان تؤثث المشهد السينمائي، لكن الذي يضر هو مكانة أبطاله وهيمنتهم على الساحة وعلى الوعي الباطني للأجيال.
في حين أن النجاح يتجلى في نوع الدور الذي تختار لعبه في الحياة بتبني القيم النافعة، وليس بالضرورة هو الثراء، وهو كل عمل يقوم به صاحبه كل صباح ليؤديه بإخلاص ومواظبة، حتى لو لم يظهر على الشاشات ولم يجمع الإعجابات والأموال.
فلو كان النجاح بكم المعجبين فإن عدد متابعي حسابات كيم كارداشيان لا يقارن مع متابعي حسابات وكالة ناسا الفضائية، رغم أن رأسمال كاردايشان هو صور واجهتها الخلفية فقط؛ أما فن الراب فرأسماله هو الأنانية المتطرفة والكلام النابي والساقط والتطبيع مع الرذائل والإدمان وقلة الحياء والاحترام؛ فالقيم المنقولة لليافعين من فن الراب ونجومه كتناول الحشيش والخمر هي من أهم مسببات حوادث السير والجرائم والأمراض الفتاكة، فبدونها ستتقلص عدة فواتير وسيتراجع عدد الفاشلين في المجتمع.
إن وجود هذا الفن في الساحة ليس بالضرورة مبرراً لدوره ولمضمونه، فهو موجود وبارز مثلما تبرز النباتات الزائدة فوق الحقول المثمرة، والرفض هنا موجه إلى قلب المفاهيم وإلى قولبة الفهم وليس ضد الحق في الوجود، فالرسالة النبيلة والقيم البناءة شيء، ونقيضهما شيء آخر حتى وإن امتلك حق الوجود.
إن هذا العالم مهما عج بتيارات تجره إلى القاع منذ الأزل، فإن القيم والفنون الجميلة هي التي تتقدم وتسمو به، فإن طغت الأولى فليس في ذلك إلا الفشل، وإن طغت الثانية ففي ذلك رخاءٌ مثل الذي بلغته المجتمعات الإسكندنافية، حيث فرغت السجون رغم جودتها من السجناء. ففي الوقت الذي تتقدم فيه نسب الإقلاع وتتشدد فيه قوانين التدخين ببعض المجتمعات التي تتصدرها نيوزيلندا، في نفس هذا الوقت يستقبل فيه لدينا مفهوم مادة الحشيش دفعة سلبية على الحكومة عدم إغفال تكلفة تأثيراتها، حيث سيختلط على الوعي الشعبي التقنين للاستعمال الطبي، وتقنين تدخينه كأخف الأضرار بالنسبة إلى بعض التجارب، سيختلط ذلك مع شرعنته والتطبيع معه كمخدر.
هذا الخلط سندفع ثمنه أكثر مما ندفعه اليوم حين يسعى طوطو والراب إلى تضليل فهم الناشئة لهذا السم بأنه محفز للإبداع ووقود للنجاح، وبأن وجوده كافٍ لتبرير تعاطيه، هذا الاستهلاك الذي يتصاعد مؤشره بين الفتيات والفتيان بشكل لا يصح أن تنام معه عين أي مسؤول تهمه صحة هذا الجيل ومستقبله.
فأصعب شيء يزيغ بالعقول وبالأمم عن خيط النجاح الرفيع هو دقة وجودة المفاهيم، ففي صقلها وفي المجاهدة لتنقيتها من الشوائب تصحيح للنظر إلى الأمور وإلى الطريق، ومن صحة هذا النظر ودقته يؤسَّسُ للفرق بين هذا وذاك، بين أمة وتلك. هذه الآلية في الأساس هي بنت الصدق والمكاشفة الفردية والجماعية المستمرة، وجودتها هي من جودة النقاش العمومي، وبؤسها من بؤسه. فالصادق مع نفسه لن يخادعها ولن يضللها فتضل به، والثقافة المبنية على الصراحة والوضوح في جميع الأمور والمستويات هي ثقافة تسير على طريق سيار في الوقت الذي تتيه فيه الأخرى بين الوحل والمنعرجات، فمن الذي سيصل بسهولة وفي الوقت، فرداً كان أو مجتمعاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.