في بداية الألفية الجديدة، وعلى قناة الجزيرة القطرية، سئل الكاتب الصحفي المصري "محمد حسنين هيكل"، على هامش حلقاته الشهيرة بالقناة: أين يُصنع القرار العربي الآن؟
فأجاب بأن القرار العربي يُصنع في القاهرة، ومن داخل القاهرة يصنع من خلال المؤسسة العسكرية، باعتبار أن المؤسسة العسكرية هي اللاعب الرئيسي من خلف الستار في السياسة المصرية.
لهذا وإن كان القرار العربى يصنع في القاهرة لسنوات خلت، فإنه ومنذ العقد الثاني من الألفية الجديدة لم يعد كذلك.
فقد حدثت عدة انكسارات حادة في السياسة الدولية، والإقليمية، جعلت من صُنعِ القرار في القاهرة "محل شك".
ويمكننا القول إنه قد تغيرت معطيات السياسة في المنطقة، مع بداية ثورات الربيع العربى التى خصمت من رصيد السياسة المصرية وحركتها في كامل الإقليم.
ما الذي حدث؟
بداية ومع "ثورات الربيع العربى"، تغيرت ملامح الخريطة الجيوسياسية في المنطقة، ودخلت القاهرة في دوامة من الفوضى جعلتها تحاول إعادة ترتيب البيت داخلياً، ما جعلها تنكفئ على نفسها، في محاولة لعدم السقوط نحو الهاوية.
كما أن "الحرب الأهلية" التي حدثت في بعض الدول العربية، مثل: ليبيا وسوريا واليمن، مكنت بعض دول الجوار الاستراتيجى لمصر، والحديث هنا عن تركيا وإيران، مكنتها من لعب أدوار رئيسية في داخل العمق الاستراتيجي للقاهرة.
كما هو حال التدخل الإيراني في الحرب الأهلية اليمنية، والتدخل التركي في الحرب الأهلية الليبية.
ومع ضغوط الأزمة الاقتصادية الطاحنة، ورغبة القاهرة ونظامها السياسي الجديد بعد 30 يونيو/حزيران 2013 في إعادة فرض النظام الداخلي، وتعويض ما خسرته من تنمية اقتصادية، بدا أن ما فقدته، نتيجة تداعيات ثورات الربيع العربى استراتيجياً، صعب التعويض، وسط حالة السيولة التي تجتاح المنطقة والعالم.
فقد أصبحت أدوار إيران وتركيا وإسرائيل في المنطقة واقعاً يجب التعامل معه وفق آليات ومعطيات جديدة، تأخذ في اعتبارها الأوضاع الجيوسياسية الجديدة والاقتصادية، الناشئة عن التحالفات العربية الإسرائيلية بعد اتفاقات إبراهام الشهيرة.
موقف مصر من الحرب الروسية الأوكرانية
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية سادت حالة من الاستقطاب بين الكتاب والمحللين السياسيين والاستراتيجيين في مصر، بين فريق يناصر روسيا ضد قادة أوكرانيا المدعومين أمريكياً، وفريق آخر يناصر الموقف "الأمريكى الأوروبي".
ومنطق ذلك أن روسيا دولة معتدية، وأنها السبب في الكوارث التى حلت في العالم، وهي التي ساعدت على تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها القاهرة.
وتراشق الطرفان فيما بينهما كلٌ لإثبات صحة منطقه، ولكن الفريقين قد أكدا بما لا يدع مجالاً للشك أنهما ينتميان إلى فترة الحرب الباردة وطريقة تفكيرهما تجاوزها الزمن.
فلم تعد روسيا هى الاتحاد السوفييتي، ولا أمريكا أصبحت ترى العالم بنفس منظور الحرب الباردة وخصوصاً فيما يتعلق بمصر، فروسيا قد غيرت من استراتيجيتها في التعامل مع العالم العربي بشكل كلي.
وجعلت من دول الشرق الأوسط مجالاً عاماً لحركتها، في شكل علاقات ثنائية فقط مع أقطابه، كما جاء نصاً في "وثيقة مفهوم السياسة الخارجية"، والتى تم التصديق عليها من الرئيس "بوتين" في عام 2013.
وكذلك أمريكا التى تريد ترتيباً يضمن مصالحها في الشرق الأوسط، ويضمن حصاراً لروسيا والصين، وفقاً لاستراتيجيتها للقرن الواحد والعشرين.
ولا تعطي واشنطن أدواراً للدول العربية في هذا الترتيب، وإنما بنت تصوراتها للأمن في الشرق الأوسط على دول الجوار العربى كإيران، وتركيا، وباكستان، وإسرائيل .
لهذا جاء تصويت مصر في الأمم المتحدة على قرار يدين التدخل العسكرى الروسى في أوكرانيا "نمطياً" متماشياً مع نص مكتوب في ميثاق الأمم المتحدة.
وجاء ليعكس حالة عدم اليقين حول مساندة روسيا التي تفضل العلاقات الثنائية بعيداً عن تصورات القاهرة في كامل قضاياها بإقليم الشرق الأوسط وإفريقيا .
يضاف إلى ذلك عدم اطمئنان القاهرة لنوايا أمريكا في المنطقة، والتى تملك مفاتيح القوة فيها، فلقد زادت الحيرة في القاهرة، وقد أصبحت سيولة الأحداث والتحالفات تشكل هواجس مفزعة للمستقبل!!
تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على مصر
ومع تصاعد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية، وامتدادها لشهور بعد تقديرات روسية خاطئة لزمن بدايتها وانتهائها، أصبحت القاهرة في عين العاصفة الناتجة عن تلك الحرب، والتي تجتاح العالم أجمع.
وكان تهديد سلاسل الإمداد الاقتصادي العالمي، عامل ضغط اقتصادياً رهيباً زاد من حدة الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ سنوات، حيث تعتمد القاهرة على غالبية احتياجاتها من الغذاء ومدخلات التصنيع على الخارج، وهو الأمر الذى أثر على أدائها داخلياً وخارجياً.
تحركات الدول المنافسة لمصر في المنطقة
وهناك عوامل أخرى شكلت ضغطاً على مصر؛ من بينها: دخول تركيا كلاعب استراتيجي في الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك عبر اعتمادها كوسيط له ثقله في محيطها الجيوسياسي.
وكذلك اشتراكها كلاعب أصبح له ثقل في سوق السلاح العالمى عبر تقنية الطائرات من دون طيار "البيرقدار"، والتى أثبتت فعالية عالية في الحرب بجانب أوكرانيا.
ودون أن نهمل دخول إيران لتعويض خسائر روسيا في الحرب عبر طائراتها من دون طيار وصواريخها البالستية، وكذلك إسرائيل بجانب أوكرانيا بأسلحتها.
وهو الأمر الذي يشير إلى أن اعتماد قوى من خارج الإطار العربي لتنظيم مسألة الأمن في الإقليم لا شك فيه، وسيصبح أحد نواتج الحرب الروسية الأوكرانية كمكافأة للأطراف المشاركة في الحرب.
أضف إلى ذلك ظهور إيران وتركيا وإسرائيل في إثيوبيا والقرن الإفريقي، وفي منطقة الصحراء، والساحل، والمغرب كلاعبين أساسيين، وهو ما يضيف أعباءً طويلة الأمد على القاهرة.
ماذا تفعل القاهرة وسط هذه العاصفة؟!
ما زالت مصر تمتلك أدوات التأثير، فعلى الرغم من الغياب السياسى خلف ضبابية المشهد، وتشابك المصالح، هناك مؤسسة عسكرية مصرية قادرة على تغيير معادلات السياسة، والقوة، بشرط أن تتجاوز مصر أزمتها الاقتصادية.
ويجب أيضاً ألا تجلس القاهرة مكتوفة الأيدى داخل حدودها، انتظاراً لمرور عاصفة الحرب الروسية الأوكرانية، فكل دول المنطقة بلا استثناء بدأت تحدد مع من تكون! ومع من سيكون شكل المستقبل!
ولقد خصمت الحرب الروسية الأوكرانية من رصيد القاهرة الجيوسياسى، وهذا من الصعب تعويضه حالياً، إلا إذا حددت القاهرة موقفها الاستراتيجي من العلاقات مع روسيا وأمريكا وقوة المستقبل الصين.
وكذلك رؤيتها وموقفها من إيران وتركيا وإسرائيل، وذلك وفق رؤية القاهرة لحجمها، وتأثيرها في محيطها الجيوسياسي والاستراتيجي.
وإلى أن تهدأ العاصفة، فالقاهرة تستطيع أن تتجاوزها ولكن بأي تصور للمستقبل؟ هذا مرهون بما تمليه السياسة على قادتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.