لا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تحتل الصدارة في ترتيب الأحداث الأهم في التحليلات ومراكز التفكير والقنوات الإعلامية، وليس الأمر غريباً، إذ إن حدثاً عالمياً متمثلاً في تحرك دولة نووية ذات إرث تاريخي ومكانة دولية لا يمر على مسرح الأحداث التاريخية مرور الكرام، بل سيدفع إلى إعادة رسم الخريطة الجيوبوليتيكية للعالم، أو كما قال الصحفي الأمريكي توماس فريدمان في مقال له على صفحات جريدة "واشنطن بوست"، إننا نعيش وضعية لم نعش مثلها من قبل، وإنه حدث مُنبئ بنهاية نظام العولمة كما نعرفه اليوم، وفي هذا السياق نرمي في هذا المقال إلى مقاربة هذا الحدث العالمي من وجهة نظر العمق الاستراتيجي لدولة روسيا، باعتباره عاملاً محدداً ومؤثراً في إدراك جذور وأسباب ومآلات الحدث.
تعريف العمق الاستراتيجي
يعتبر العمق الاستراتيجي أحد أهم عناصر قوة الدولة، إذ يصف المنطقة الجغرافية أو المسافة التي تفصل بين الجيوش المتحاربة، وتكمن أهمية هذا العنصر في كونه حاسماً جداً في تقييم وضعية الدولة في مواجهة التهديدات الشاملة، وخصوصاً العسكرية منها، من خلال وصف المناطق الحيوية في الدولة التي يؤدي تدميرها إلى تعطيل اقتصاد الدولة، وأيضاً وصف مراكز الثقل السكاني ومدى ابتعادها عن خطوط الجبهة الأمامية، ومن هذا تصبح صناعة عمق استراتيجي قوي من أولى أولويات كل الدول، باعتبار ما ينبي عليه من قياس للزمن، وبناء تكتيكات حربية أو ترحيل السكان وتوطينهم في أكثر الأماكن أمناً واستقراراً.
يتيح العمق الاستراتيجي للدول التي تملكه إمكانية ممتازة في المناورات القتالية، سواء فيما تعلق بالانسحاب التكتيكي أو جر القوات المعادية إلى مناطق جغرافية يعرفها الجيش المعتدى عليه جيداً، مستغلاً عناصر البيئة الطبيعية والبشرية في أقاليمها الجغرافية.
كما يتيح أيضاً انتهاج استراتيجية الدفاع في العمق، وهي استراتيجية ناجحة جداً للدول ذات المساحات الجيدة والعمق الجغرافي الكبير، من خلال الانسحاب إلى الداخل لامتصاص ضغط القوات المعادية بلا مواجهات عنيفة، وهو ما يكبّد القوات المعادية خسائر فادحة كما سنرى لاحقاً.
بالعودة إلى الموضوع الرئيسي، اعتبر بوتين في خطاب له عام 2005 سقوط الاتحاد السوفييتي بالكارثة الجيبوليتيكية للقرن العشرين، وما كان يقصده حسب منظر الجيوبولتيكا الأبرز جورج فريدمان هو أن تفكّك الاتحاد السوفييتي كلّف روسيا العنصر الذي سمح لها بالصمود في وجه الغزوات الأجنبية منذ القرن الثامن عشر: العمق الاستراتيجي.
العمق الاستراتيجي الروسي
من الناحية الجغرافية تعد روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة. حيث تبلغ مساحتها 17098242 كيلومتراً مربعاً. وتقع الدولة في الجزء الشرقي من قارة أوروبا والجزء الشمالي من قارة آسيا. وتمتد من الشمال إلى الجنوب لمسافة أكثر من 4000 كم، ومن الغرب إلى الشرق لمسافة 10000 كم تقريباً. ولروسيا حدود مشتركة مع 16 دولة. يحدها من الجنوب الشرقي كوريا الشمالية (جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية)، ومن الجنوب الصين ومنغوليا وكازاخستان وأذربيجان وجورجيا، ومن الجنوب الغربي أوكرانيا، ومن الغرب روسيا البيضاء ولاتفيا وإستونيا وفنلندا والنرويج. ولمنطقة كالينينغراد حدود مع ليتوانيا وبولندا، وتعتبر حدود كل من الصين ومنغوليا وكازاخستان وأوكرانيا من أطول الدول حدوداً مع روسيا، إذ تتجاوز حدود كل واحدة منها الـ1500 كلم، وهو ما يجعل روسيا منيعة جغرافيا من حيث المسافة بين حدودها وعمقها الحيوي، ولكنها في معظمها حدود برية، وهو ما يسبب لروسيا عزلة من حيث المنافذ البحرية، خصوصاً من جانبها الغربي، الذي تتحكم فيه أوروبا بشكل كبير جداً، فمنفذها من البحر الأسود تتحكم فيه تركيا، ومنفذها من ناحية بطرسبرغ يمكن أن يحاصر بسهولة بسبب طول البلطيق، والثالث الذي ينطلق من المورمانسك ثم يتوسع من خلال الفجوة بين آيسلندا، والمملكة المتحدة والجرينلاند.
روسيا في رحلة البحث عن العمق الاستراتيجي
بالنسبة للمعسكر الغربي عموماً يعتبر سقوط موسكو الطريق إلى إسقاط روسيا، وهو ما فشل فيه هتلر ونابليون معاً؛ إذ المسافة الفاصلة بين الحدود السوفييتية والعاصمة منهكة جداً وصعبة الجغرافيا وخطوط الإمداد طويلة، وهو ما جعل الألمان والفرنسيين يصلون العاصمة مرهقين، وهو ما جعل الاتحاد السوفييتي يصمد ذلك الوقت، فقد كانت المسافة بين بطرسبورغ وأقرب دولة في الناتو حوالي 1000 ميل، وحوالي 1300 ميل بينها وبين العاصمة موسكو، والتي تقلصت الآن إلى 100 ميل بينها وبين بطرسبورغ و500 ميل من موسكو. وعلى الرغم من هذا فإن دول الناتو المحيطة لا تملك النية ولا القدرة على دخول روسيا حالياً، ولكن بالنسبة لبوتين فإن النيات والقدرات تتغير، وهو ما يستلزم عقيدة استباقية في مواجهة التحديات المهدِّدة للأمن الوطني الروسي.
ولا يختلف الأمر من الناحية الجنوبية؛ إذ يحدد الروس تهديداً محتملاً أيضاً، فمن الناحية التاريخية استعملت منطقة القوقاز كمنطقة عازلة عن الأتراك في سياق الحروب المتتالية معهم، وهي منطقة توسع العمق الاستراتيجي الروسي أكثر، إذا فكر المعسكر الغربي أو أي جهة في تهديد روسيا من هناك فسيكون عليه قطع مسافة 1000 ميل أخرى مع مواجهة سلسلة جبال القوقاز المعروفة بوعورتها، وهو ما يفسر التحرك الروسي في جيورجيا عام 2008، إذ تحولت المنطقة في سياق الصراع إلى دول تتحرك في فلك المعسكر الغربي، أو تربط معه بعلاقات تصل إلى ما يتم تعريفه بالعلاقات الاستراتيجية.
ويمكن اعتبار العمق الاستراتيجي محركاً رئيسياً في استراتيجية الأمن الوطني الروسية وخيار بوتين في التحرك الحربي، إذ إن عملية تعريف الأمن لدولة كانت حدودها تصل بولندا ستصل حتماً إلى نتيجة مفادها أن مفهوم الأمن على حدودها يتراجع، ويصبح أكثر تغريباً (المعكسر الغربي) وأمركة، فبسقوط الاتحاد السوفييتي في 1991 خسرت موسكو حوالي مليوني ميل مربع من الأراضي السيادية، وهو ما يعادل الاتحاد الأوروبي بكامله، كما خسرت حصتها في ألمانيا ودول تابعة أخرى في أوروبا الشرقية، علماً أنها أصبحت جميعها الآن داخل التحالف الغربي، وهو ما ألزم بوتين حسب رؤيته للوضع الاستراتيجي الروسي وللعالم بالتحرك على أعلى مستوى.
من خلال هذا التوضيح المقتضب سيبدو جلياً أن تحول أوكرانيا إلى المعسكر الغربي، ودعم الولايات المتحددة لها في مراحل عدة هو تهديد للأمن الوطني الروسي من ناحية العمق الاستراتيجي، ويمكن أن نعتبره سبباً قوياً في مطالب روسيا على طاولة المفاوضات، فما ترمي إليه روسيا هو نفسه ما حدث في جورجيا، أي إنشاء منطقة عازلة محدودة التسليح بين دول الناتو وروسيا، كما أنه قد بدا جلياً في مقال بوتين في يوليو/تموز 2021، حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين، أنه يعتبر أوكرانيا جزءاً من دوائر التأثير الروسية، واصفاً العلاقات بينهما بالروحية والتاريخية والحضارية، ومشدداً على مفهوم المصير المشترك والإنجازات والانتصارات المحققة معاً، وأن مشروع التقسيم الذي حدث بين البلدين بسبب أخطاء الداخل ومؤامرات الخارج هو مشروع "anti –russia" كما جاء في المقال، وهو ما يعطي دلالة- حسب رأيي المتواضع- أن روسيا متجهة في خيارها هذا ولا يمكن أن تتراجع، ولا أعتقد أن المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية سينجع في ثنيها عن فعل هذا، إذ لا يبدو الغربيون مكترثين جداً بأوكرانيا، بالنسبة إلى الروس، وسيلعب عامل ميزان العزم بين الطرفين مع كفة الروس، لاعتبارات الأمن الوطني والغايات الاستراتيجية، التي تسعى إليها روسيا، بخلاف الولايات المتحدة، التي يبعد الصراع عن جغرافيتها، ولا يكون عزم المُدافع عن وجوده كعزم المحافظ على مصالحه ومكتسباته، وهو الحال بين الفريقين في هذه اللحظة.
المصادر والمراجع
- جورج فريدمان، البحث الروسي عن العمق الاستراتيجي، مستقبل الجيوبوليتيك، 2020.
- جورج فريدمان، 10 خرائط توضح الاستراتيجية الروسية، موقع Forbes، 2016.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.