عبر مر العصور كانت الثورات والنزاع على السلطة مصدراً لسفك الدماء والخراب. الثورة الفرنسية، أشهر ثورات التاريخ تَبِعها عهدٌ سُمّىَ بعهد الإرهاب. وفي تاريخنا الإسلامي ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً، وبعض صحابة النبي وتابعيهم اقتتلوا في موقعتي الجمل وصفين وغيرهما، حتى إن رأس حفيد رسول الله قُطع والكعبة دُكت بالمنجنيق. في عصرنا هذا شهدنا الهرج والمرج في سوريا والعراق واليمن وغيرها، والربيع العربي تحول إلى خريف دامٍ في الكثير من هذه الدول.
هذه الكوارث التي تلت الثورات ومواجهة الأنظمة دفعت كثيراً من الخاصة والعامة للتحذير من الثورات والانخراط في العمل السياسي ومحاولات التغيير السياسي؛ وذلك من أجل عدم إثارة الفتن ودرئها في مهدها. تأتي خطب الدكتور عدنان إبراهيم الأخيرة في ذلك الاتجاه. لكن الطريق الذي يريدنا هذا الخطاب أن نسلكه لا يبعدنا عن الفتن، إنما يقودنا إليها.
هذا الخطاب، الذي يوصينا بالبعد عن السياسة، يعترف تصريحاً أو ضمنياً بعنف السلطة وإرهابها. فالدكتور عدنان ذكر كيف أن الأخوة قتلوا بعضهم بعضاً من أجل السلطة والمحافظة على الملك. وحسب منطقهم ومنطق الدكتور، هذا يشير إلى أنه لا يجب مزاحمة ومنافسة السلاطين في سلطانهم. فالبطش وإراقة دم كل من يهدد السلطان من طبائع المُلك وسننه. ويتعامل هذا الخطاب مع عنف السلطة على أنها من طبائع الأمور دون إدانة حقيقية ودون مطالب بتغير تلك الطبيعة العنيفة والمستبدة، كأن ذلك من قدر الله وسنته التي لن نجد لها تبديلاً ولن نجد لها تحويلاً.
لذلك يذهب هؤلاء إلى ملاطفة الأنظمة ومسايرة الحكام وطاعتهم وتسليم الأمر لهم دون منازعة أو اعتراض يذكر. لكن هذا الرأي قائم على عدة مغالطات وإغفال لأجزاء مهمة من المعطيات السياسية.
فمثلاً، يغفلون أنه كما من طبائع السلطان المطلق الاستبداد والبطش بمن ينازعه الأمر، فإن من طبائع الأفراد والمجموعات أن تطلب السلطة وتسعى إلى كرسي الحكم والبطش بمن بطش بها. ومن طبائع الأمور وجود أناس يظنون أنفسهم أحق بالسلطان من السلطان نفسه وأقدر على إصلاح شؤون العباد. ولا تخلو دولة من أناس يشعرون بالظلم والقهر فيصلون إلى الحكم والسلطان لإقامة الحق الذي يرونه ولرفع الظلم الذي يعيشونه.
ومن طبائع الأمور أن الاستبداد بالسلطة والمحافظة عليها بالعنف وقوة السلاح يوحي لمن أراد السلطة والتغيير أن الفيصل والحَكَم هي قوة السلاح والعنف وحده. وفوق ذلك هم عندها لا يحملون السلاح رغبةً في التغيير والوصول إلى الحكم وحسب، إنما يستخدمونه مُحَمَّلين بالكراهية والرغبة في الانتقام. ويتطلعون لتشفية صدورهم من المستبد القامع الذي نكّل بهم ومن كل من أيده أو ربما حتى هادنه.
هذه من طبائع البشر والحُكمِ والاجتماع، ولو اجتمع علماء المسلمين قاطبة على تحريم منازعة الأنظمة والملوك سلطانهم لما نجحوا في منع الناس من الثورة والتمرد ومحاولة تغيير الحكم. وإن لم يجدوا في الدين أرضية الانتفاضة لتوجهوا إلى الأيديولوجيات الاشتراكية أو الليبرالية أو القبلية أو الطائفية للتنظير لثوراتهم وللتحريض على الأنظمة. "فالبراكين تثور بنداء الطبيعة لا بفتاوى العلماء"، كما قال شهيد الجهاد السلمي عبد الله الحامد.
فإذا برر عدنان إبراهيم وغيره قبول الاستبداد وعنف السلاطين بكونه من طبائع الأمور فيجب أن يبرروا تمرد الشعوب وتطلع الأفراد والمجموعات للحكم والسلطان واتخاذهم العنف وسيلة في ذلك وهي الوسيلة التي سبقتهم الأنظمة إليها للاستيلاء والمحافظة على الحكم. لكن هذا المبدأ فاسد من أساسه، فقبول عنف واستبداد الأنظمة أو المنتفضين على أنه من طبيعة الأشياء هو كقبول الجريمة والاغتصاب والأوبئة والجفاف على أنها من طبائع الأمور وقدر الله.
نعم، إن اختلاف وتنازع الناس فيما بينهم ومحاولتهم التطلع والاستئثار بالسلطة هو من سنن الحياة التي لن نجد لها تبديلاً. لكن استبداد وعنف السلطة ليس من تلك السنن التي لا تبدل. فهذه هي القارة الأوربية التي عاشت حروباً وثورات ومجازر باسم الدين والقومية والأيديولوجية قد أصبحت من أكثر المناطق سلماً داخلياً. فإن الفصل بين السلطات والشفافية، وحرية الرأي والصحافة وتشكيل الأحزاب والعمل السياسي وآليات ومبادئ تداول السلطة سلمياً واحترام حقوق الإنسان هي أيضاً من السنن التي من شأنها أن تقلص عنف واستبداد من في السلطة وعنف واستبداد من يصبون إلى السلطة أو يعارضونها. وعدنان إبراهيم نفسه أشار إلى هذا المعنى في تسجيل له في 2003، حيث أشار إلى التجربة الأوروبية ورجَّح أن فتنة عثمان ومقتله ما كان لتحدث لو كانت بعض تلك الآليات الديمقراطية موجودة.
لذلك إذا أراد عدنان إبراهيم وهذه التيارات تجنب الفتن والإرهاب عليهم التأكيد على هذه القيم والآليات الديمقراطية ومطالبة الأنظمة العربية بها. وكما أنهم يشجبون عنف المحتجين والمعارضين والفتاوى والأفكار التي تبرر العنف في مواجهة السلطة عليهم أن يدينوا عنف السلطة وبطشها وقمعها المعارضين والمخالفين وعليهم إدانة فتاوى العلماء التي تبرر الاستبداد والبطش والاعتقال السياسي. إن الطريق الذي يسلكه بنا هذا الخطاب بما فيه خطاب عدنان ابراهيم ما هو إلا طريق الظلم والاستبداد والشيطنة والاحتكام للسلاح والعنف والإرهاب لا طريق السلام كما يُزعم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.