تضرب العالم منذ بداية العالم الحالي موجة عاتية من ارتفاع الأسعار لم تفرق بين دول شمال الكوكب الغنية والدول الفقيرة في الجنوب؛ حيث سجلت معدلات التضخم قفزات قياسية في معظم دول العالم، محققة معدلات لم تحدث منذ نصف قرن مضى تقريباً، الأمر الذي دفع الخبير الاقتصادي الأميركي بول كروغمان، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، إلى تشبيه ارتفاع الأسعار الحالي بما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بين عامي 1946 و1948.
وكانت المعالجات النقدية الخاطئة أثناء أزمة كورونا أحد أهم أسباب موجة التضخم العالمية، حيث أغدقت البنوك المركزية الكبرى حول العالم تلالاً من الأموال على الأفراد والشركات في إطار محاولاتها لتفادي الآثار السلبية لتداعيات فيروس كورونا على اقتصاداتها المحلية، الأمر الذي تسبب في زيادة المدخرات نتيجة للإغلاق، ثم انفجارها كقوة شرائية أكبر كثيراً من السلع المعروضة، فكانت النتيجة الارتفاع المستمر للأسعار، الذي تزامن مع أزمات خانقة في سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الشحن، واضطرار البنوك المركزية لرفع معدلات الفائدة لشفط الأموال من سوق الاستهلاك، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة، لا سيما بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وكلها أمور زادت من اشتعال معدلات التضخم حول العالم، لا سيما في ظل استمرار ارتفاع سعر الدولار الأمريكي مقابل العملات الكبرى الرئيسية.
وتواجه مصر حالياً ضربة تضخمية مزدوجة، سببت في شطر منها موجة ارتفاع الأسعار العالمية الناتجة عن الأسباب السابق الإشارة إليها بصورة مجملة، لا سيما في ظل الاعتماد المصري الكبير على استيراد معظم السلع الغذائية الرئيسة من الخارج، علاوة على استيراد نسبة من احتياجاتها البترولية.
أما الشطر الثاني، والذي يُعد السبب الأكبر لموجة التضخم العاتية في مصر حالياً، كما أنه يعتبر خصوصية للدولة المصرية، فهو الانخفاض المستمر لقيمة الجنيه المصري في مقابل الدولار الأمريكي.
وكان الجنيه المصري قد تعرض لضربة قاصمة بنهاية عام 2017 بعد انخفاض قيمته بما يعادل 100% تقريبا، وذلك في أعقاب ما سمي بالتعويم المدار الذي طبق على أثر اتفاقية القرض الأول مع صندوق النقد الدولي، والتي اشترطت كذلك إزالة تحرير أسعار السلع المدعومة، الأمر الذي فجّر موجة غلاء فاحشة أسقطت أكثر من ثلث المصريين تحت خط الفقر، وفقاً للبيانات الرسمية.
وكنتيجة للسياسات الاقتصادية العشوائية طيلة الأعوام السابقة والإفراط في الاعتماد على القروض الخارجية لتمويل مشروعات لم تحظ بالدراسة الواجبة ولم تكن على قمة سلم أولويات احتياجات الشعب المصري اضطرت مصر إلى الرضوخ لصندوق النقد الدولي مرة أخرى عبر موجة ثانية من التعويم، انخفض الجنيه على أثرها من 15.5 جنيه للدولار، إلى ما قرابة 23 جنيهاً للدولار حتى كتابة هذه السطور، ولا تزال موجة التعويم في بدايتها، ومن المرجح أن يستمر الانخفاض خلال الأيام القادمة.
وفي ظل موجة التضخم العاتية في مصر حالياً يبقى السؤال المهم لدى فئة عريضة من المصريين يدور حول كيفية الحفاظ على قيمة المدخرات قبل أن يلتهمها التضخم، وهل يعتبر تحويل الأموال إلى أصول أخرى مثل العقارات أو الذهب أو حتى الدولار ملاذاً آمناً، أخذاً في الاعتبار تقلبات الأسعار عالمياً لتلك البدائل.
الذهب الملاذ التقليدي للمصريين للحفاظ على قيم مدخراتهم
لا شك أن انخفاض سعر الجنيه المصري سيرفع أسعار السلع، ومن الطبيعي أن يبحث المصريون عن أدوات استثمار للحفاظ على قيمة أموالهم، وهنا تتعدد الاختيارات بين الاستثمار في العقارات والأراضي، وشراء معادن مثل الذهب والفضة، وحيازة أصول مثل السيارات وحتى الأدوات الكهربائية، أو الاستثمار في البورصة لمن يمتلكون خبرة أو من خلال وسيط أو سمسار أو شركة أوراق مالية.
ويبرز الذهب كملاذ تقليدي آمن اعتاد المصريون الهروب إليه للحفاظ على قيم مدخراتهم في مواجهة موجات التضخم وانخفاض قيمة الجنيه، خاصة أن أسعاره تقوم بالدولار، مما يعني أن أي انخفاض لقيمة الجنيه المصري ستؤدي إلى زيادة موازية لها على الأقل لسعر الذهب في السوق المحلية، الأمر الذي يدفع بالكثيرين نحو تحويل أموالهم إلى جنيهات أو مشغولات ذهبية تحوطاً من انخفاض قيمتها.
ويعيب على الذهب فقط ارتباط سعره مع الدولار بعلاقة عكسية، ولذلك فالارتفاع المستمر للدولار الأمريكي خلال الفترة الماضية أدت إلى انخفاض ملحوظ في أسعار الذهب عالمياً، لكن هذا يعني أن الذهب سيرتفع سعره في السوق المصرية نتيجة انخفاض قيمة الجنيه، مع ذلك فإن انخفاض سعره عالمياً لا يجعله مخزناً لكل القيمة، بل لنسبة كبيرة منها، الأمر الذي يدفع البعض إلى مقارنته بالدولار الأمريكي والسؤال عن أيهما يحفظ للمدخرات قيمتها؟
الدولار أم الذهب أيهما يحفظ قيمة المدخرات؟
بالطبع لكل توجه استثماري مميزات وعيوب، وقبل الحديث عن مميزات وعيوب الاستثمار في الذهب أو الدولار تجدر الإشارة أن المخاطبين بهذا المقال هم صغار ومتوسطي المدخرين من عموم الشعب المصري، وهي شريحة في النسبة الغالبة منها لا تمتلك ثقافة متابعة حركة الاقتصاد العالمي ولا أسواق المال وبورصات السلع، مما يعني أن انتقالها من وعاء استثمار إلى آخر بصورة سريعة قد يبدو خياراً غير مرغوب بالنسبة لها، ولذلك يكون سؤالها مباشراً، الذهب أم الدولار؟
عيوب ومميزات الادخار بالذهب
يخضع تسعير الذهب لحركة البورصات العالمية، ولذلك فإن سعره يعد متحركاً إلى حد كبير خلال الفترة الماضية، لا سيما في ظل ارتفاع الدولار، ويُعد ذلك من أبرز عيوب الاستثمار فيه، بالإضافة إلى أن الاستثمار في الذهب يجمد الأموال نسبياً، ويفقد الشخص جزءاً من قيمة المشغولات الذهبية عند بيعها، لذلك ينصح بشراء الجنيهات أو السبائك الذهبية، مع الأخذ في الاعتبار أن السبائك تحتاج إلى رأس مال كبير، ولذلك يمكن القول إن العملات الذهبية هي الأكثر مناسبة للمدخر الصغير، فمن ناحية هي قابلة للتجزئة (نصف أو ربع جنيه ذهب) ومن ناحية أخرى تحويلها إلى سيولة لن يكلف المدخر خسارة أي نسبة من ماله مقارنة بالمشغولات.
يعاب كذلك على الاستثمار في الذهب أنه، وعلى الرغم من حفاظه على نسبة كبيرة من قيمة المدخرات، فإنه لا يدر دخلاً شهرياً أو سنوياً، عكس المدخرات والسندات والأسهم التي تدفع أرباحاً، خاصةً أن البنوك توفر عدداً من الأوعية الادخارية التي تعطى المدخرين عوائد شهرية وسنوية ذات نسب فائدة مرتفعة بالعملة المحلية، وهنا يجدر لفت الانتباه إلى وجوب المقارنة بين سعر الفائدة على الأوعية الادخارية بالبنوك ومعدلات التضخم السائدة، ففي معظم الحول تعاني السوق المصرية من سعر فائدة سلبي، وهي الحالة التي تكون فيه سعر الفائدة في البنك أقل من معدل التضخم، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة المدخر جزءاً من قيمة أمواله.
كما يعاب على الاستثمار في الذهب كذلك احتمالية تعرّضه للسرقة، وقلق البعض من الاحتفاظ بكميات كبيرة منه في المنازل، وهنا يمكن التوجيه بإيجار خزينة بأحد البنوك والاحتفاظ بالذهب فيها نظير مبلغ شهري، وبالطبع هذه النصيحة ليست موجهة لأصحاب المدخرات الصغيرة.
عيوب ومميزات الادخار بالدولار
أما عن الدولار، فلا شك أن الارتفاع المستمر في قيمته خلال الفترة الأخيرة يشكل حافزاً قوياً نحو الدولرة (تحويل الودائع بالجنيه للدولار)، وقد ازدادت تلك الحوافز بعد قرار البنك المركزي المصري رفع الفائدة على الودائع بالدولار حتى وصل العائد على الشهادات الجديدة إلى 5.30% سنوياً، و5.25% نصف سنوي، و5.20% ربع سنوي، و5.15% شهرياً، وهي أرقام كبيرة للغاية مقارنة بمتوسط العوائد على الودائع الدولارية في الدول الأخرى.
يعاب على الدولار تقلب أسعاره، صحيح أننا نعيش حالياً فترة ازدهار وارتفاع كبيرة للعملة الأمريكية، ولكن ينصح من يرغب في التحول إليها بالكثير من المتابعة لأحوال الاقتصادين الأمريكي والعالمي، وأن يأخذ بعين الاعتبار أن الدولار يمر بدورات من الارتفاع والانخفاض، بما يعني أن استثماراته يجب أن تراجع مواقفها كل ثلاثة أشهر على الأكثر، وأن يكون دائماً على أهبة الاستعداد للتحول نحو أساليب استثمارية أخرى.
يعاب على الاستثمار بالدولار كذلك شحه وصعوبة الحصول عليه من السوق المصرية في الفترة الحالية، وأنه في ظل الأزمة الخانقة حالياً ربما لن تستطيع البنوك توفير الكميات المطلوبة منه إذا رغب العميل في استرداد وديعته، بما يعني أنه لن يكون من السهل التحول نحو أوعية استثمارية أخرى بالدولار، لا سيما في التوقعات باستمرار الأزمة الحالية لفترة ليست بالقصيرة.
من المؤكد أن التضخم يلتهم قيمة العملة المحلية، ولذلك لا بد أن يلوذ المدخر بأوعية استثمارية أخرى، ولأن الاستثمار بالبورصة يحتاج إلى الكثير من الخبرة فإن الاستثمار في الذهب والدولار هما ملاذ المدخر الصغير والمتوسط، ولكن الاختيار بينهما يخضع للكثير من العوامل السوقية والشخصية، وعلى المستثمر دراسة عيوب كل منهما ومميزاته بدقة حتي يفاضل بينهما بصورة تحقق له أقصي استفادة ممكنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.