يقول المفكر المغربي سعيد بنكراد في آخر مؤلف له، متحدثاً عن قناعته بشأن الدين، في كتابه الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية: " سأدرك بعد ذلك، عندما تخلصت من الأحكام الجاهزة، أن الإنسان كائن متدين، وأن الدين حاجة عند الناس، ولن يكون أبداً أمراً عارضاً في حياتهم، لقد كان سمة من سمات الإنسان العاقل، ويبدو أنه سيظل كذلك….. وكان (أي الدين) حاجة يقتضيها ضعف الإنسان وهشاشته"، كان هذا رأي سعيد بنكراد، وهو في أواخر عمره، بعدما عاش وجرب عدة تيارات فكرية مختلفة، وخاصة التيار اليساري، الذي قضى فيه معظم حياته، غير أنه وهو في أوج نضجه الفكري والمعرفي، يصرح بهذا الرأي، وبالمناسبة فهذا ليس رأي بنكراد وحده، بل هذا الرأي هو الذي خلص له الفلاسفة بعد فترة الإصلاح الديني، وهو الدين الطبيعي عند كانط، الذي تبناه من بعده لاكان، حيث يرى هؤلاء المفكرون والفلاسفة أن الدين هو حاجة طبيعية في الإنسان، وبالتالي لا يمكن التخلي عنه، غير أنهم لا يؤمنون بالدين كما يؤمن به باقي الناس، بطقوس وعادات، بل على شاكلة أخرى، فإذا كان الدين لازماً وضرورياً لحياة الإنسان، فإن هناك الكثير ممن يرون أنه هو مصدر الشقاء والدمار في الأرض، فهناك من يرى مثلاً أن الحقبة التي سبقت ظهور الأديان الإبراهمية كانت حقبة يملؤها السلام والأمان بين الناس، إلى أن جاءت الأديان وفرقتهم، غير أن الحقائق التاريخية حول هذا الأمر تخبر بخلاف ذلك، ولاحقاً بعد عصر الأنوار وظهور مفهوم الدولة القومية، ستتوطد أسطورة العنف الديني، وأنه كان السبب وراء الحروب التي شهدها العالم، ولا شك أن هناك حروباً ألصق اسمها بالدين أو رمز من رموزه، غير أن هذه الأسطورة كما سيتبين تنضوي على مغالطات كثيرة، وأن السبب الحقيقي للعنف ليس هو الدين، بل هناك أسباب أخرى متعددة، قد يكون الدين آخرها.
عربياً وإسلامياً، هناك أطروحة أركون الأشهر، وبالمناسبة فالأسس التي بنى عليها أطروحته هي مستعارة، من مفكرين ومستشرقين غربيين، لم يزد أركون عن إسقاط تلك المفاهيم على التاريخ الإسلامي، يقول أركون إن الدين الإسلامي هو سبب العنف، وستتوطد أواصر أطروحته بعد إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وستلقى كتاباته قبولاً من قِبل المفكرين والمثقفين، كما أن اسمه سيكون له الحضور الأبرز في الإعلام، لكن ما يهم الآن، هو ما مدى صحة أطروحته، والذي يرى فيها أن هناك ثلاثية هي التي تشكل العنف، وهي الحقيقة، والمقدس، والعنف، ويقصد بها أن المتدينين بداية يدعون أنهم يملكون الحقيقة، وأن هذه الحقيقة مقدسة، وبالتالي فإنهم يملكون المشروعية في استعمال العنف بغية الدفاع عن هذه الحقيقة، وهنا يصبح العنف مشروعاً حسب رأي أركون ويكون العنف باسم الدين أيضاً، وإن كان هذا الأمر حدث في الماضي وأنه تجربة تاريخية حسب رأيه، إلا أن هناك من يرى أن لا مانع من إعادة نفس التجربة، وأنه ما لم يتم نقد التراث وإصلاحه، فإن إمكانية إعادة نفس التجربة ستظل قائمة.
يقول صاحب كتاب أسطورة العنف الديني: "إن أسطورة العنف الديني هي من تأسيس الدولة القومية الحديثة، وذلك لأنها تحاول انتشاله من الواقع العام حتى تبسط سيادتها"، ويعني ذلك أن هذه الأسطورة كما يفصل فيها في كتابه المذكور أعلاه، أنها ظهرت عقب ظهور الدولة القومية، وأنها ألصقت مفهوم العنف به، حتى تبسط سيادتها، وتمارس عنفها المشروع، رغم أن الحقيقة وراء تلك الحروب التي قيل عنها حروباً دينية، هي في الحقيقة لم يكن الدين هو السبب الرئيسي وراءها، بل هناك أسباب أخرى متعددة، مثل الأسباب الاقتصادية، أو السياسية، ولا أدل على ذلك من الحربين العالميتين، فهما أكبر دليل على صدق هذه الأطروحة، كما أن الأسباب قد تكون عرقية أو قومية، غير أن لا أحد ينكر أن الكثير من هذه الصراعات كانت تلبس لبوس الدين، وذلك لأن الحرب باسمه تكون عادلة ومشروعة، غير أن السبب الحقيقي قد يكون سبباً آخر.
ومن الشواهد على الأمر أعلاه، أحداث ما سُمي بالربيع العربي، فإنها وإن كانت الأسباب الحقيقية وراءها، هي أسباب سياسية واقتصادية، إلا أنها سرعان ما لبست لبوس الدين، كما أنه حتى من حاول أن يستغل تلك الأحداث جاء بعباءة الدين، وبالتالي تحول تلك الانتفاضات من مجرد مظاهرات تطالب بالعدالة الاجتماعية وتسوية حقوق الناس، إلى حروب دينية مقدسة، وتحول رموزها من مجرد شباب حالم بغد أفضل، إلى أمراء وولاة، وخلفاء، لا يشك أحد في أن مثل هذه الأحداث وبالخصوص في العالم العربي، تحتاج إلى دراسات مفصلة للوقوف عن أسبابها الحقيقية، لكن ما يهم هنا هو الإشارة كيف قد يتحول الصراع من مجرد صراع عادي، إلى صراع ديني مقدس، وذلك ربما لمكانة الدين في الوعي الجمعي القومي العربي، حيث إن منه يقادون.
يرى صاحب كتاب أسطورة العنف الديني أن الدين مهما كانت طبيعته، فإنه قد يتحول إلى العنف عندما تظهر إحدى السمات الآتية، أولاها ادعاء حيازة الحقيقة المطلقة، ينبغي هنا الإشارة إلى أن هذا المفهوم ظهر في السياق الغربي عقب الإصلاح الديني، وجاء كرد فعل على ادعاء الكنيسة أن تفسيرها للكون والوجود هو التفسير الأصدق والأصح، وبذلك فإنها عقب إعلان بعض العلماء عن اكتشافاتهم بشأن الفلك مثل جاليليو وكوبرنيك، وطبعاً كان ما جاؤوا به مخالفاً لادعاءاتها، مارست الاضطهاد بحقهم، وذلك لأنها كانت تدعي أنها هي من تملك الحقيقة المطلقة ومن خالفها، فإنه يستحق التنكيل، غير أن هذا الرأي لا يسري على جميع الأديان، صحيح أن الأديان لها حقائق غيبية، لكن هذا لا يعني أن الدين يحوي حقائق الأكوان، وأن فيه علم الذرة والمجرة، هذا لا يقولونه إلا من لا يعرف الدين ولا لغته ولا أسلوبه في الهداية.
وأما ثاني الأمور، أنها إذا حصلت فإن الدين قد يتحول إلى مصدر عنف، هو الطاعة العمياء، فعندما يصبح أتباع الأديان يطيعون طاعة عمياء، فإنهم يكونون على استعداد لأن يرتكبوا أفظع الجرائم تحت طائلة الدفاع عن معتقداتهم، وحماية مقدساتهم، حتى وإن لم يكونوا يملكون المشروعية في ذلك، وأما ثالث هذه الأمور، فهو التأسيس للزمن المثالي، وذلك أن كل دين يدعي أن هناك حقبة أو عصراً مثالياً، وبالتالي فإنه ينبغي الكفاح، أو القتال بغية عودة هذا الزمن، وكذلك الإيمان بأن الغاية تبرر الوسيلة، فإذا كان أصحاب الأديان يدعون أن ما يؤمنون به هو الدين الأصح، وأن باقي الأديان هي محرفة، أو منسوخة، فإنهم قد يستعملون أي وسيلة في الدعاية إلى معتقداتهم، وقد يكون من ضمنها العنف، غير أن مثلاً في الإسلام من قواعد الدعوة الرفق والحكمة، يقول الله تعالى: "ادعُ إلى سبيلِ ربكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ".
وآخر هذه الأمور هو الإعلان عن الحروب المقدسة، اليوم مثلاً قد نرى أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، على سبيل المثال، هي حرب على المصالح، الاقتصاد والجغرافيا بالأساس، وأن عالماً جديداً يتشكل، في هذه الحرب، لا يهم الوسائل المستعملة فيها، حتى إن بوتين يهدد بالنووي، فكيف لا يستعمل الدين مثلاً، والمقصود هنا أن الدين لم يكن يوماً ولن يكون هو مصدر العنف، بل هو يستعمل بغاية تبرير العنف أو شرعنته، ومهما كانت الأمة التي ستعلن الحرب فإنها لا شك ستستخدم الدين، ما دام أنه ما زال موجوداً في وجدان الناس، وسيظل كما يقول بنكراد، لا يهم مهما كانت طبيعته، ولا يهم أيضاً مدى التقدم الذي وصلته الأمة التي ستستعمله، فما دام يؤدي الغرض المطلوب، فإنه سيستعمل لا شك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.