إن القيمة الأساسية التي تدور حولها أحداث قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر وصحبته هي "العلم"، إن العلم في هذه القصة يُعرض هنا على أنه قيمة صحيحة، وله مظهران: ظاهر وخفي، وينبغي أن لا تَحجُبَنا وسائلنا التي نطّلع بواسطتها على الجانب الظاهري عن التسليم بوجود الجانب الخفي الذي أحاط الله سبحانه وتعالى به.
إن العلوم التي بلغها الأنبياء والمرسلون لأممهم، وأقاموا صرح الحضارات الإنسانية عليها علوم أساسية لم تستغن عنها البشرية في أيِّ مرحلة من مراحل وجودها، وكانت واسطة العقد في هذه الرسالات السماوية رسالة محمد ﷺ حيث ختمت به وبرسالته النبوّات ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب:٤٠).
وإلى جانب العلوم المستمدة من الوحي الإلهي، فهناك العلوم التجريبية التي تشكل حصيلة الجهد البشري على مرّ القرون للتعرف على سنن الله في الكون، للارتقاء بالوسائل التي يستخدمها الإنسان في حياته وتعامله، وهذه العلوم كلها تُكتسب بالجهد البشري، ولوسائل المعرفة من الحواس وغيرها دور في تنميتها والاستزادة منها.
ووراء كل ذلك علم غير خاضع للجهد البشري ووسائله في التعرف والاستزادة، وهو علم الغيب الذي تُدار شؤون الكون به، ومجاله الإيمان المطلق والتسليم لعالمه جلَّ جلاله الذي أحاط بكل شيء علماً. قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)﴾ (يونس:٦١-٦٣).
إن القيمة الحقيقية للعلم بمظهره الظاهر والخفي، علم الشرائع والعلم اللَّدُنِيّ الذي لا يدرك حقيقته إلا أهل البصائر من المؤمنين الراسخين الذين لا تزعزع إيمانهم الأسباب الظاهرة والنتائج المحتملة، بل يرون خلف الأسباب والمسببات يد القدرة الإلهية، والحكمة العليا التي تتجلى فيها حقائق أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.
والمتمسّك بالعلم الظاهر محمود الفعال والسلوك، وينبغي ألا ينكر العلوم الخفية خاصة إذا وجد من الظواهر الكونية ما لا يمكن تعليله أو معرفة أسبابه الظاهرة أو إدراك وجه الحكمة فيه، وإنما يعيد العلم إلى الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض.
وفي قصة موسى -عليه السلام- والخضر رسالة واضحة البيان في ألا يمنح الإنسان لنفسه حق الكلمة الأخيرة فيما لا يعلم بواطنه مما يظهر أنه شر لا حكمة تخالطه.
فما الحكمة التي من الممكن أن تتصورها عقولنا لخرق رجل عاقل ظاهره الحكمة سفينة مما قد يؤدي إلى تلفها وهلاك أصحابها؟
وما الحكمة من قتل طفل صغير بريء؟ لا تسمح لنا عقولنا بإبصار الحكمة وراء هذا الشر الذي يبدو بوضوح "ظاهري" أنه شر مجاني، لكنّ كشف الغطاء عن خيوط دقيقة غير مرئية تربط بين أشياء الواقع وعلائِقِهِ مما يتجاوز تفكيرنا المحدود يظهر أن حكمة بالغة مشبعة بالرحمة الإلهية تكمن وراء هذا الشر الذي أوهمتنا عقولنا أنَّهُ مجَّانيٌّ.
إن قصة النبي العظيم الحكيم "موسى" -عليه السلام- مع الخضر تأخذ بأيدينا إلى حقيقة تواضع معارفنا أمام هذا العالم الهائل في تعقيده وخفاء أسراره، فخرق سفينة لعيبها حتى لا ينتهبها من أصحابها ظالم، وقتل طفلاً لم يجرِ عليه القلم سبب لرحمته وأهله من شرّه إن كبر.
كل حديث عن الشر في عالم عظيم متداخل العلائق وبعقل محدود المدارك، لا بد أن يبدأ -مهما كان موقف الخائض في شأن وجود الله- بالإقرار بالقُصُور الإدراكي للإنسان، وأنه لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، ويلزم من القصور العقلي للإنسان وضعف معارفه أمام علم الخالق أن تفوت حِكَمُ أمور من العالم إدراكَه.
إن حياتنا الدنيا جزء من قصة أطول، وبترها عن الآخرة يفقدها ضرورة دلالتها على الحكمة الإلهية الكبرى من إيجادها على السنن التي نعرفها.
إن هذا الكون بشروره على تعداد أنواعها ودرجاتها هو ما يتوقعه المؤمن من إله قدير، عليم، رحيم، حكيم، خلق الإنسان على الصورة التي جاء بها القرآن للحِكم التي أوردها القرآن، ولغايات أوردها القرآن، ولذلك لا يجد المسلم نفسه في مأزق تصوّري للألوهية ولا لمعاني الحياة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.