أخيراً أعلنت الحكومة المصرية عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وهو الاتفاق التي انتظرته الدولة المصرية طويلاً.
تأمل الدولة المصرية أن يسد هذا القرض الفجوة الدولارية الحالية، وأن يمنح الاقتصاد المصري الثقة الغائبة، لهدف رئيسي، وهو الحصول على قروض أخرى من دول وبنوك ومؤسسات إقليمية ودولية، يقول وزير المالية المصري إنها ستكون 5 مليارات دولار من "الشركاء الدوليين"، ومليار من صندوق المرونة والاستدامة.
لإتمام هذا الاتفاق، كان لزاماً على النظام المصري، اتخاذ العديد من الإجراءات الصادمة، وبشكل سريع ومتتالٍ، بعد أن طالت المفاوضات مع صندوق النقد الذي تمسّك بشروطه حتى النهاية.
هل يحمل قرض صندوق النقد الدولي الدواء؟
عملاً بمبدأ من "المداواة قبل الصدمة"، أعلنت الحكومة في 26 أكتوبر/تشرين الأول، عن حزمة إنفاق اجتماعي بقيمة 67 مليار جنيه، ورفع الحد الأدنى للأجور الحكومية والمعاشات، بنحو 300 جنيه؛ ليصبح 3 آلاف جنيه بدلاً من 2700 جنيه.
فوفقاً لوزير المالية محمد معيط، سيتم إقرار علاوة "غلاء معيشة" استثنائية، تُصرف بفئات مالية مقطوعة بمبلغ 300 جنيه شهرياً لكل المستويات الوظيفية، بدءاً من الدرجة السادسة وحتى الدرجة الممتازة، لجميع العاملين بوحدات الجهاز الإداري للدولة، وهذه المنحة الاستثنائية تشمل أيضاً أصحاب المعاشات، على أن يتم تطبيق تلك الزيادات بدءاً من الشهر المقبل.
لكن، في صباح اليوم، 27 أكتوبر/تشرين الأول، استيقظ المصريون على الصدمة المنتظرة بإعلان البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، وأصدر قرارات أخرى تضمنت رفع سعر الفائدة 2% على الإيداع والإقراض، بهدف مواجهة الارتفاع الجنوني للتضخم الذي سيحدث بعد انخفاض قيمة العملة.
هذه الإجراءات كانت متوقعة من قبل الحكومة المصرية قبل إتمام الاتفاق، وخاصة التحرير الكامل لسعر العملة، وتركه لآلية العرض والطلب، وخلال الفترة المقبلة من المتوقع اتخاذ قرارات أكثر إيلاماً للمواطنين من قبيل زيادة أسعار البنزين والكهرباء والخبز المدعم.
تُجري الحكومة المصرية محادثات مع صندوق النقد الدولي منذ بداية مارس/آذار الماضي للحصول على قرض جديد، لحل مشكلة هبوط سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي وصدمات ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وباقي الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية واضطراب سلاسل التوريد.
وللمرّة الأولى تطول المفاوضات إلى هذا الحد قبل التوصل لاتفاق نهائي بين الطرفين، على عكس القرض التي حصلت عليه مصر في عام 2016 بقيمة 12 مليار دولار، وقرض العام 2020 بقيمة 8 مليارات دولار.
تضع الحكومة المصرية أملاً كبيراً في هذا القرض، فعلى مدار الشهور القليلة الماضية، لم يمر يوم واحد تقريباً دون أن يخرج مسؤولو الحكومة المصرية، وبالأخص وزير المالية، للحديث عن قرض صندوق النقد الدولي، ولم يفوّت أي فرصة للحديث عن آخر مستجدات المفاوضات التي كانت جارية بين مصر والصندوق.
رئيس الوزراء أيضاً لم يبخل بالإدلاء بتصريحات عن آخر تطورات حصول مصر على القرض، وبالطبع فإن قرض صندوق النقد الدولي كان الملف الرئيسي لكل من طارق عامر محافظ البنك المركزي الأسبق، وحسن عبد الله رئيسه الحالي.
وبلغت ذروة ما يمثله القرض من أهمية لمصر، التي يعاني اقتصادها من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، عندما طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال زيارته إلى ألمانيا وساطة الدول الأوروبية ودعمها للضغط على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتخلي عن شروط الإقراض الصعبة.
ففي المؤتمر الصحفي الذي أقيم في العاصمة الألمانية برلين، في 18 من يوليو/تموز 2022، دعا الرئيس المصري "أصدقاءنا في أوروبا لإيصال رسالة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بأن الواقع الموجود في بلادنا لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة وحتى تنتهي هذه الأزمة".
لذا، أصبح من الواضح منذ تلك اللحظة وما تلاها، أهمية القرض بالنسبة إلى الاقتصاد المصري الذي يعاني من تراجع الاحتياطيات الأجنبية، وفجوة تمويلية تتراوح ما بين 40 و45 مليار دولار للأشهر الـ12 المقبلة. مما جعل هناك صعوبة في تغطية فاتورة الواردات دفعها إلى إغلاق الاستيراد، والأهم من ذلك ارتفاع الدين الخارجي.
ولكن، في ظل هذه الأزمة الخانقة، هل يحمل قرض صندوق النقد الدولي الدواء؟
قرض 2016 نموذجاً
في أواخر عام 2016 حصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وبدأت الحكومة المصرية بتنفيذ برنامج الصندوق على 3 سنوات.
وبدأت مصر سريعاً في تنفيذ العديد من الإجراءات الصادمة، ومنها خفض دعم الطاقة تحديد ضريبة القيمة المضافة، وتحرير سعر صرف الجنيه المصري وتركه للعرض والطلب، ورفع سعر الفائدة بنسبة 3%.
بالإضافة إلى حزمة أخرى من القرارات ذاق المصريون مرارتها، من تخفيض قيمة الدعم على المشتقات البترولية التي تشمل وقود السيارات والمنازل. وكذلك رفع سعر تذكرة مترو الأنفاق والمواصلات العامة، وتخفيض الدعم على الكهرباء سواء للأغراض المنزلية أو الصناعية.
وتمثلت صدامية هذه السياسات، في فقدان معظم المصريين قيمة مدخراتهم وانخفاض قيمة الدخل الأساسي إلى مستويات متدنية، ولا يمكن للأرقام والإحصاءات وحدها أن تصور كارثية تبني سياسات صندوق النقد الدولي على الأوضاع المعيشية للمصريين.
وأدى ما كان يدعى بالإصلاحات الاقتصادية إلى ارتفاع معدلات التضخم خلال الشهور التي تلت قرار تعويم حتى وصلت إلى نحو 35%. وبعد أن كان قيمة الدولار 8.86 جنيه قبل التعويم، وهوى بعدها بشكل متسارع إلى 18.89 جنيه.
وفي تقرير للبنك الدولي، أشار إلى أن الإصلاحات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة المصرية منذ 2016 أثرت سلباً على الطبقة المتوسطة، وأدت إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 32.5% بعد أن كانت 27.7%، وأن هناك تفاوتات جغرافية كبيرة في معدلات الفقر جعلتها تصل في بعض المحافظات إلى نسبة 60%.
وكان البنك الدولي قد أصدر بياناً في شهر مايو/أيار 2019، يتناول فيه برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي منذ 2016، وقال إن نحو 60% من سكان مصر إما فقراء أو عرضة للفقر.
تبدو هذه الأرقام أكثر صدمة، ولربما رعباً، عندما يضاف إليها توقع إذ خبراء الاقتصاد بأن يزيد هذا العدد بشكل أكبر بعد القرارات التي اتخذتها الحكومة مؤخراً.
ذكرت دراسة للدكتورة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة بني سويف، هند مرسي، أن توزيع الدخل الحقيقي في مصر يظهر أن أكثر من 50% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر العالمي الذي يعادل ما يقرب من 31 جنيهاً يومياً للفرد.
وتشير الدراسة إلى أن ارتفاع خط الفقر القومي في مصر يعود إلى تدهور قيمة الجنيه بسبب السياسات الحكومية منذ 2014، التي أدت إلى تدهور مستويات المعيشة، وتحول فئات من الطبقة الوسطى المصرية إلى فقراء، بارتفاع قيمة خط الفقر. لأن انخفاض قيمة الجنيه المصري يعني عملياً انخفاض القوة الشرائية للجنيه في مقابل السلع المختلفة محلياً وخارجياً. ما يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر، واتساع نطاق الفئات والطبقات المهمشة وزيادة فرص عدم المساواة الاجتماعية.
مظلة الإصلاحات الاقتصادية
هذه السياسات أتت تحت مظلة "الإصلاحات الاقتصادية" التي كان طالب بها الصندوق مصر، وكانت تقارير صندوق النقد الدولي خلال تنفيذ تلك الإجراءات الصعبة على المواطنين، تثني على الاقتصاد المصري وانضباط الحكومة في تنفيذ برنامجها، على أساس أنه سيعود عليها بمزيد من النمو وارتفاع الاستثمارات الأجنبية وزيادة الصادرات المصرية.. ولكن أي الوعود الآن؟
بعد قيام مصر في 2016 بتنفيذ "روشتة" الصندوق وتحرير سعر العملة، كان من شأن هذه الإجراءات الصعبة والضاغطة على حياة المواطنين، زادت من جاذبية مصر للمستثمرين الأجانب، بالنظر إلى أسعار الفائدة المرتفعة في مصر، وقام الأجانب بضخ مليارات الدولارات في سوق ديونها.
واعتمدت مصر على هذه الأموال في تسديد الديون وفوائدها وتمويل فاتورة الواردات المرتفعة، وقبل بداية عام 2022 كانت الحكومة متفائلة، وترى أن هذه الاستثمارات كانت نتيجة إيجابية للسياسة التي انتهجتها.
لكن كل شيء تغير مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، التي تسببت في هروب 20 مليار دولار من الأموال الساخنة، ووجدت الحكومة المصرية نفسها في ورطة سداد عشرات المليارات من ديون وفوائد لم تتوقع الاضطرار لها قبل الحرب، وخرج وزير المالية محمد معيط وأظهر أن الحكومة المصرية أخطأت، لأنها اعتمدت على الأموال الساخنة.
الأمر الذي يمكن أن يعني أن كل المعاناة التي تكبدها المواطن المصري، على أثر سياسات الحكومة الصادمة خلال تنفيذ برنامج الصندوق منذ 2016، ذهبت بلا طائل بعد قيام المستثمرين الأجانب بالهروب بأموالهم من مصر، وبعد كل ما قدمته الحكومة المصرية من وعود بأن الاقتصاد المصري تحسن وأصبح أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي.
ظهر بعد ذلك أن المواطن تكبد المعاناة دون أن يجني الفائدة في تحسن أحواله المعيشية، أو تحسن الاقتصاد المصري، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن الفائدة التي سيجنيها المواطن من تكبده الصدمة والمعاناة القادمة على أثر قيام مصر مرة اخرى بتنفيذ سياسات الصندوق، وهل هي مثل سابقتها معاناة بلا جدوى أو فائدة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.