حتى لا يدفعنا “التعويم” إلى “الغرق”!

عدد القراءات
699
عربي بوست
تم النشر: 2022/10/27 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/27 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش

ليس هناك يوم أقسى على الناس من يوم كهذا، ليس أشد على الرجال في مكاتب عملهم من ساعة كتلك التي وصلوا فيها إلى "الشغل" ليجدوا مرتباتهم التي سيتقاضونها بعد يومين تخرّ أمامهم، وتخور قوتها، فناموا على علاوة 300 جنيه لا تشتري أكثر من كيلو ونصف من اللحم، أو طبقين من البيض مع لوازم قليلة أخرى، واستيقظوا على انهيار للعملة أمام الدولار، ليكتشفوا المفاجأة، ويفيقوا على كابوس يأتي بعد الاستيقاظ لا قبله، وقد أُسقط في يدهم.

سيعود الزوج إلى البيت بوجه عابس، يحدث نفسه، ويتكلم منفرداً، كأن به مسّاً، أو أنه أصيب بالجنون، ماذا سيشتري من طلبات الشهر، وكيف، والتضخم دوامة تزداد حدتها وحمى دورانها مع أي اهتزاز للجنيه، وكيف سينفق على زوجته، وبيته، وأولاده، والإيجار، والفواتير، والمدرسة، والدروس، والمواصلات، واللحم، والدجاج، والبيض، والزيت، والسكر، والخبز، والجبن، والاشتراكات الشهرية الضرورية، وعائدات مسح السلم، والبنزين، وما لا يخطر على بالك، في مثل هذه الأحوال، يصبح الذكور هم الجنس الأكثر اهتماماً بالتفاصيل، بأدق أدق التفاصيل، في صداع لا تهزمه حبة مسكّن، ولا حتى الاستعانة بالله وحدها، فالواقع يحتاج إلى أسباب، بجوار تيسير رب الأسباب.

الزوجة هنا في دور عظيم، دور إما يهدئ العاصفة، أو يجعلها أكثر فوراناً، إما تخفف الحمل، أو تدمر كل شيء إن تأففت، أو لم تفقه المستجدات التي تجعل الرجل بركاناً هادراً، والرجل له دور في كيفية التدبير، والتفكير، والتصرف، واستقرار الجو النفسي، وإرساء قواعد الأمن والأمان، وتخفيف القلق، والزوجة هنا دورها أن تحتوي، وأن تحدّ من آثار النكسة على قلب رجلها الذي يدور في ساقية لا تتوقف أبداً، وتهوّن عليه ذلك.

خلية إدارة الأزمة

والمتزوجون حديثاً، الذين يفكرون كيف سيقضون شهورهم القادمة، والأيام حالكة أمامهم، الأصول تقول هنا أن يجلسوا، وينظروا في المصاريف، ويعرفوا كيف يدبروا مصاريف الشهر، وكيف يستغنون عن الرفاهيات، وماذا يأكلون ويشربون، كم مرة يأكلون لحماً في الشهر؟ وكم مرة يأكلون الدجاج؟ وما البدائل؟ وكيف تغزل "الشاطرة" برجل حمار، كيف تصنع من البحر طحينة فعلاً، لأنها أغلى بكثير عند البقال، وكيف تعين الزوج على أن يعمل فترتين بدلاً من فترة واحدة، وتقدّر جهده وكدّه، وتسهم معه لو استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتعرف أنه عائد من يوم طويل، أو يومين طويلين في يوم واحد، لا مساحة في ذهنه للشكوى، ولا بين يديه للعتاب، ولا في قلبه للانشغال بهموم أكبر، وإنما تبسط له البيت كأنه كون فسيح، وتملأ بأنفاسها أركانه كأنه سعة يوميّة بعد ضيق يومي، وتسمع منه تفاصيل يومه وشكاواه، وتسعده بما وفّرت وادّخرت، وكيف صنعت من البحر طحينة فعلاً، لا على سبيل المجاز.

والرجل هنا، دوره أن يدرك الحد الرقيق الفاصل بين "التدبير" و"البخل"، وبين "التوفير" و"الشح"، وبين أن يوفر الأساسيات دون نقصان، وأن يقتر في الاحتياجات دون تعقّل، حتى لا تمل منه زوجته، ويكرهه حتى فراشه الذي ينام فيه، فلا شيء في الدنيا أسوأ من الفقر إلا البخل، ولو كنت لا تجد ما تأكل، فالجوّاد ليس من ملك وأعطى، وإنما من كان كريماً مع محدودية ما يملك، فلا يبخل على زوجته وعياله بما يبهج صدورهم، ولو كان سيأتي فيه على نفسه ببعض ضيق اليد الذي يحمله هو.

وأن يهدأ، أن ينفّس عن غضبه وضيقه مع زوجته في حديثه، مترفقاً بها، متودداً لها، يحسن الشكوى كما تحسن هي الاستماع والاحتواء، فلا يعاقبها أمام ما عوقب به هو، ولا ينفجر فيها كما ينفجر فيه الآخرون والأزمات، وإنما يهون ذلك كله بأن يدرك من معه ممن عليه، فهي في صفه، لا مقابله، جنديّه الأهم في معركة طاحنة.

وعليهما إدراك اللطائف في عسير المواقف، فالكيّس من يرى ألطاف الله في الشدائد، ويشاركها من يحب، فيخفف عنهما قليلاً مما يحملانه، فهذا مع سوئه وصعوبته وشدته، لن يخلو من رحمة الله مهما كان، وهي موجودة موجودة، من أراد رؤيتها رآها، ومن تجاهلها عمي عنها، وزادت عليه محنته.

المقبلون على الزواج

أما المقبلون على الزواج، فهي نصيحة من متزوج حديثاً، كان مقبلاً على الزواج قبل قليل حتى أتم الله له أمره وأكمل نعمَه، فإن الشاب ما دام يُلتمس فيه الدين والأخلاق والمروءة والكرم والسعي والعمل، وارتضيتم منه طباعه ومكارمه، وما دامت الفتاة يُلتمس فيها الدين والأخلاق والتحمّل والفهم وامتلاء العين بما قسم لها، فإننا نأتي لما بعد هذه الأسس من حديث؛ البساطةَ البساطة، فإن الاستغناء هو أولى قواعد الغنى، وأولى علاماته، فالعاقل من أدرك فيما ينفق ماله، وما ترتيب أولويّاته، فالأساسيات أولاً، والاحتياطيات ثانياً، والرفاهيات ثالثاً، وقد تبدو هذه بديهيّة، كأننا في دورة تنمية بشرية فارغة، لكن الحقيقة أنها قاعدة عقلانية يغفل عنها الكثيرون بمجرد الدوران في الساقية.

فليس أحد في الدنيا أولى منكم بتجهيز بيوتكم، التي يجب أن تكون حسب سعة يدكم، وعلى قدر استطاعتكم، فهناك من يشتري ويتملك، وهناك من يستأجر حتى يملك، وهناك من يستأجر حتى يستطيع السداد، وهناك من يعيش في قصر أو فيللا، ومن يعيش في غرفة واحدة، فلا بأس ما دام المكان كريماً لأهله، وبأهله، ثم نسأل في التجهيزات، هل سنحتاجه هذا؟ متى سنحتاج إليه؟ هل يقبل التأجيل؟ أم واجب الشراء الآن؟ هل هذا ضروري أم زائد؟ هل هذا جوهري أم من باب "المنظرة"؟ هل له مكان لدينا في مطبخنا أو غرفتنا أو بيتنا وله استخدام، أم سيتكدس على الرف حتى لا يقولوا إننا لم نشترِه؟ هل سييسر علينا في شؤون حياتنا أم لا فرق إن اشتريناه أو تركناه؟

كل هذه الأسئلة تساعد في تحديد قائمة الطلبات، فلا يكون البيت معرضاً للأثاث والأجهزة الكهربية، تكاد تحمل نصفه وأنت خارج دون أن يشعر أهله أنه قد نقصهم شيء، وبالتالي، فالأساس هو ملء البيت بما ينفعه، وإعفاؤه مما لا يفيده، لأن المصاريف التي بعد الزواج هم أولى بها، ولأن بركة الزواج بالزوجين، لا بـ"أحضر فلان وفلانة كذا وكذا".

وهنا تحضرني تجارب جميلة يقرّها واقع الغربة، الذي يعلّم "التخلي"، فتستطيع التخفف كأنك مسافر، وكذلك تؤثث بما يطيب لك الإقامة، فحين ارتفعت أسعار القاعات وبلغت عنان السماء، وجدنا أصدقاءنا يدعوننا لأعراسهم في بيوت الله، الفرح سيكون بعقد القران بعد المغرب في المسجد، ثم زفة جميلة إلى البيت، أو إلى مطعم يأكلان فيه ثم يمضيان إلى عشهما الدافئ، حتى صار ذلك عادة وعرفاً، لا ينكره إلا جاهل.

كلمة في آذان أهلينا

إن الذي يراه جيلنا ثقيلاً، وما نعيشه قطعاً هو أضعاف ما عشتموه، وضيق اليد على متيسر الحال في زماننا أشد من ضيق يد الفقير في زمانكم، والذي كان يعمل ويفلح ويقلع فيتزوج عندكم بعد عامين أو ثلاثة في كنف أبيه، يحتاج لدينا عشرة أعوام حتى يجهز نفسه لاستئجار شقة في أي مكان بسيط، حتى يعيش ويتزوج. فالحل ليس في أن نلغي الزواج مثلا، هو سنة الله في أرضه، ولن يبطلها أي حال من الأحوال، ولن يكون الحل في تركه، لأن العواقب لذلك ستكون وخيمة وشديدة، وإنما في التيسير على الأبناء، ذكراناً وإناثاً، فلا نشقّ على الرجل بشروط معيشة وصل إليها والد الفتاة بعد ثلاثين عاماً من الكدّ، ولا نشق على الفتاة وأهلها بقصاص مقابل ما شقوا على الرجل به، ولا ننظر إلى ما متع الله به أزواجاً آخرين، أو أرهقتهم "العين الفارغة" به وما زالوا يسددون أقساطه، وإنما نرضى من الحياة بالبسيط منها، فلا نشق على أنفسنا بأيدينا.

حتى لا نغرق أكثر

فالحل في مجابهة "تعويم الجنيه" أو غيره من القرارات الحمقاء أو نتائج الأنظمة المتخلفة، في أن نتشبث بقوارب النجاة الاجتماعية من الغرق، لا أن نكون عاملاً أقوى في الهلاك فتنهار السدود الآمنة الأخيرة، وحوائط السد الوحيدة التي تحمينا، وتغرق البيوت بفيضانات الشوارع. 

الواجب هنا أن نجعل البيوت عليّةً فوق هذه المهالك، فتكون مرافئ آمنة، وشواطئ مرتفعة، نجد فيها من الدفء ما يقينا أسقام البلل، وندرك بها من أطواق النجاة وأسباب الحياة ما ينقذنا من الأمواج، وحماقة القبطان، وهشاشة القارب.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد