قبل سنوات دقَّ بابي شخص لا أعرفه، وناول ابني ظرفاً عليه اسمي، فتحته فإذا فيه بطاقة عرس، مكتوب عليها فلانة الفلانية، تدعوك لعرس ابنتها"، قلت لابني: "لا أعرف هذه السيدة، فليتك تلحق الرجل الذي أعطاك إياها وتعيدها له، فلا بد أن هناك خطأً". وخرج ابني في إثره فلم يجده، وكان قد اختفى، وحرت ماذا أفعل: فبطاقات العرس مكلفة، وعددها محدود، ولا أريدهم أن يخسروها… وإذا بجارتي التي تسكن بآخر الحارة تتصل بي وتسألني: "هل وصلتك البطاقة"، وكم فوجئت أنها صاحبة الدعوة، فهي بالنسبة لي الجارة أُم فلان. فقلت لها: "أول مرة أعرف اسمك واسم عائلتك"، ابتسمت وقالت: "لقد نسيتُ اسمي، فمنذ ولادة طفلي الأول والناس تناديني باسمه، وأنا أحب اسمي وأشعر بفقده، وإني غير راضية ولا سعيدة".
وهكذا، في ذلك اليوم، وبسبب زواج ابنها عرفت اسمها!
حزنت على إجبار جارتي على هجر اسمها، وتذكرت كيف يقولون لنا دوماً ويؤكدون "أن الإسلام جعل للمرأة شخصية مستقلة، وحافظ على اسمها، فتبقى على اسم أبيها واسم عائلتها، ولا تحمل اسم زوجها لئلا تفقد هويتها"، ولكن كثيرات يصبحن بعد الزواج أم فلان (اسم ابنها)، وبالطبع سيُتبع بعائلة زوجها، فلا يتبقى لها شيء من أصلها. وغالباً ما يكون السبب الغيرة من ذكر اسمها، أو اعتباره عيباً أو ممنوعاً، وهذا بالطبع مخالف للشريعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي نساءه ونساء الصحابة بأسمائهن، ويذكرهن بأسمائهن أمام الصحابة، وهكذا نشأنا وتعودنا في دمشق أن ننادي أكثر النساء والرجال بأسمائهن وأسمائهم.
وعلّل لي بعضهم فقال: "الكنية في بلادنا بديل عن كلمة "سيد" أو "بيه" أو "باشا" أو "مدام"، فنخاطبه بكنيته كنوع من الاحترام والرسمية، وابتعاداً عن الألقاب الدخيلة". ورددت: "لسنا مضطرين لتلك الكلمات، وفي الشام كنا ننادي بالأسماء، وإذا كانوا كباراً سبقنا الاسم بعمو أو خالة، وإذا كانت لهم صفة ومهنة قلنا الأستاذ أو المهندس أو الطبيبة، وإذا كان رجلاً أجنبياً أو امرأة قلنا: الأخ فلان والأخت فلانة، والمهم أن نبقي الاسم مصوناً وكما هو".
هكذا تعودنا، ثم حين هاجرنا رأيت بعض البيئات والمجتمعات تنادي بالكنية، فلا تكاد الفتاة الصغيرة تتزوج أو تنجب حتى يُتجاهل اسمها، فهذه "أم فراس"، وتلك "أم عمار"، والأخرى "أم طلال"… ونفس الشيء مع الرجل، بل أحياناً يكنونه وهو ما زال صغيراً، ولكن الرجل يحتفظ باسم عائلته على الأقل… على أني أعترف أنه وحين يتزوج قد تُغير الزوجة كنيته!
والنتيجة: أصبحنا نضيع فلا نعرف مَن حولنا، ولذلك كانوا بالمدرسة أحياناً ينادوننا بأسماء عائلاتنا، لأنها أكثر تعبيراً عن أصلنا، وكانت تحدث مشكلات، فكثيرات من معارفي تدعى "أم محمد"، ما يتسبب أحياناً في اللبس: فتكون الدعوة لأم محمد الجارة، فتأتي أم محمد الخياطة… ويطلبون من واحدة توصيل الهدية لإحداهما، فلا تتفهم مَنْ المقصودة، وتأخذها للثانية، فيصعب الاعتذار من الأولى واسترداد الهدية منها، وقد فرحت بها وشكرت صاحبتها عليها! ومرة قطع زوجي مسافة كبيرة لتعزية صديق، فتبين أن المتوفى والد صديق آخر (وكان الثاني بيته قريباً).
إن هذه الأحداث حفَّزتني لكتابة هذا المقال، والتنبيه لبعض النقاط:
– التكني عادة موجودة عند العرب من قديم من قبل الإسلام. والعجيب أن عادة التكني عندنا فقط، وليست موجودة عند أهل المغرب والجزائر وتونس ولا حتى باليمن، فتُنادى المرأة باسمها والرجل كذلك، كما فهمت منهم.
– ولكن ولشدة حب الناس للكنية تناقلوا أنها سنة، في حين نقل النووي أن التكني جائز: "باب جواز تكنية الرجل بأبي فلانة وأبي فلان والمرأة بأم فلان وأم فلانة، أعلم أن هذا كله لا حجر فيه، وقد تكنَّى جماعات من أفاضل سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم بـ"أبي فلانة"، فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه له ثلاث كنى: أبو عمرو، وأبو عبد الله، وأبو ليلى، ومنهم أبو الدرداء".
– وربما اعتبر بعضهم التكني سنة، لأن النبي عليه السلام كنّى بعض الصحابة كأبي هريرة، وبعضهم الآخر -وهم قلة- كانوا يُنادَون بكناهم، ولو كانت الكنية سنة لانتشرت بعهد النبوة والرسالة، ولكن لم يكن الأمر كذلك.
ونبدأ بكرام الخلق "الأنبياء"، فكلهم دعاهم الله سبحانه وتعالى بأسمائهم في القرآن، وذُكروا بأسمائهم بالأحاديث الشريفة، وأكثر الصحابة وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة، والمقربون من النبي، كان أكثرهم يُدعَون بأسمائهم، كعلي والزبير وجعفر وزيد وسعد ومعاذ وطلحة وخباب وعبد الله بن مسعود. ومن النساء خديجة بنت خويلد، والزيانب، وأسماء وخولة… وزيد ومريم ذكرهما الله بالقرآن باسمهما، ولم يُكنِّ مريم وهي أُم لنبي… والقائمة تطول.
– وإن تسمية أكثر الصحابة بأسمائهم لَيدل أنه لو كان التكني سنة فليس شرطاً بعد التكنية أن ننادي صاحبها بها، بدليل أن السيدة عائشة تكنّت، ولكننا لم نعرفها إلا باسمها، ولما جئت أبحث عن كنيتها وجدت صعوبة حتى تحصلت عليها (لقلة ذكرها). وكذلك تكنّى عمر بن الخطاب بأبي حفص، وعرفناه باسمه، وحتى أبوعبيدة تُتبع كنيتُه باسمه: عامر بن الجراح.
– وبعض الصحابة الذين يُنادون بالكنية حملوها من أيام الجاهلية، فكُنيت أم سلمة وأبو سلمة من الجاهلية، وبقيت عليها بعد الإسلام، وكذلك أبو بكر كانت كنيته من قبل وبقيت، فهي عادة موجودة ومقبولة.
-ويشيع آخرون أن الفضل والاحترام بالتكني، ولا دليل سوى العرف والعادة؛ بل وجدت بتفسير القرطبي الذي عني بالفقه ما يلي: "الاسم أشرف من الكنية، ولهذا كنى الله "أبا لهب" وحطه عن الأشرف إلى الأنقص… ودعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يَكْنِّ أحداً منهم. ومما يدلل على شرف الاسم عن الكنية أن الله تعالى يسمى ولا يكنى (ج20: 236)".
ولقد احتفظ أكثر الصحابة والصحابيات بأسمائهم، وإن كان منهم من تكنى، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
– ولقد شكا لي بعض الصبية أن التكني يُحزنهم كلهم، إلا كبيرهم (فالأم والأب يتكنون باسمه ويهمل ذكر الباقين)، ولذا أعجبني ما يفعله إخواننا بالمغرب، حيث يقولون "ولد فلان"، أو "بن فلان"، وبذلك يُنادى الأبناء كلهم باسم الأب لا العكس، ويُعرفون أمام الناس به، وبإنجازاته، وبذلك يتساوى الأبناء بالمناداة ولا يحزن أي واحد فيهم.
وما سبق وقائع ومعلومات تخص الموضوع، ولكن الخلاصة التي أريد الوصول إليها:
أن الذي يتوافق مع السنة الحقيقية الثابتة هو "مناداة الإنسان- رجلاً وامرأة- بأحب الأسماء إليه"، سواء أكان اسمه أم كنيته أم لقبه.
– عن حنظلة بن حذيم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدعو الرجل بأحب أسمائه إليه وأحب كُناه.
رواه الطبراني ورجاله ثقات .
– كانَ النّبي صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يُدعى الرجلُ بأحبّ أسمائه وأحبِّ كناه. (الأدب المفرد 86).
– وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه (الكامل في الأدب والتاريخ 39/1).
– "من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه"، فهذا الفيصل، وهذا الصواب، ولكن من دون غسيل دماغ؛ فلا يُقنعون المرأة بأن الكنية أفضل من اسمها الذي ألِفته وسُميت به! وأما إذا أحبت أم فلان بكامل حريتها واختيارها فلها ما أرادت.
وإن من أكثر ما يُقرب الناس لبعضهم بعضاً المناداة، فكان هذا أسلوب القرآن بالخطاب، وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته، ولأن المناداة شيء محبب وإنساني تنبّه له الأجانب، فكتب عنه ديل كارنيجي في كتابه الشهير "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس"، وشجع على المناداة بأحب الأسماء، والإكثار منه وترديده.
وإن الشخصية العاقلة العميقة تعرف أن المناداة أمر مهم، وأنه مفتاح القلوب، ولأن المناداة عملية يومية فيجب أن نعرف كيف ننادي أحباءنا لنزداد منهم قرباً ومودة ورحمة وأُنساً، وليقوى تأثيرنا عليهم، فيسهل نصحهم وتوجيههم.
وبالتالي الشخصية التي تحب اسمها يجب أن تُنادى به، ويُنادَى بالكنية من يحبها، فهذا حقه وحقها، وأكتب هذا تعاطفاً مع من تُجبر أو يُجبر على غير ذلك من الرجال والنساء والصغار والكبار. وأقول: "نادوهم بأحب الأسماء إليهم تكسبوا حبهم ومودتهم، ويسهل عليكم إرشادهم ونُصحهم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.