عادت أمس المعارك على جبهة الاستحقاق الحكومي الذي يُسابق موعد انتهاء الولاية الرئاسية، ولم تبق إلا فسحة ضئيلة جداً من الأمل وتوليد حكومة ربع الساعة الأخيرة من عمر العهد، الذي يبدو أنه سيودّع البلاد من دون تسليم مقاليد رئاسة الجمهورية لعهد جديد، لتعذّر انتخاب رئيس حتى الآن، فيما يقول مطلعون بكل ثقة أن لا حكومة لإدارة الفراغ، لأنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أطاحَ بما اتفق عليه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي بإعلانه بأنه لن يمنح الحكومة الجديدة الثقة، ما وَتّر الأجواء على نحو لم يعد ممكناً معه تأليف هذه الحكومة.
وهذا التعنت العوني مرده شعور عون وباسيل أن الظرف مواتٍ لفرض شروطهما على ميقاتي انطلاقاً من ثابتة أساسية تقول إن ميقاتي يحتاج أكثر منهما إلى حكومة جديدة بصلاحيات كاملة تدير الشغور الرئاسي، ومن مصلحته أن تكون موضع توافق داخلي مع تلاقي الخارج على وجودها بشكل ضروري ريثما ينتخب رئيس جديد في أبعد تقدير بعد سنة، فيما حكومة تصريف الأعمال ستذهب به إلى مسارات خطرة، وستشكل مادة تجاذب وصراع سياسي هو بغنى عنها، وتحديداً سيكون أمام مواجهة محتملة مع كل القوى المسيحية.
وبقاء حكومة تصريف الأعمال بعد حالة الفراغ سيكون أفضل ما سيحصل عليه عون وباسيل، وسيتربع هذا الملف كعنوان لمرحلة المعركة العونية باتجاه كل الخصوم السياسيين بكونها قضية رابحة لاستكمال مشواره السياسي من بعبدا الى الرابية، بهدف شد العصب المسيحي بعنوان مسيحي جاذب، وهي معركة رفض تجيير صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة تصريف أعمال وفاقدة للميثاقية، مع احتمالية عالية بقيام استقالة عدد كبير من الوزراء المسيحيين منها في فرصة عونية، ما يعني تجميع حتى خصوم عون في خندق طائفي واحد لا يستسيغ أن تَرِث حكومة برأس سني صلاحيات الرئيس.
بالتوازي فإن حزب الله الحاضر والغائب في كل الملفات يعمل على خط تشكيل الحكومة في إطار سياسته القائمة مؤخراً على اللعب بين النقاط المحلية والإقليمية، وهذا ما تجلى في اتفاق الترسيم البحري في الآونة الأخيرة على السير بين النقاط اللبنانية والإقليمية. والترسيم الذي يعتبره الحزب أحد أبرز إنجازاته، لأن ما جرى وفق وجهة نظره ينطوي على اعتراف أمريكي به، لذا يستمر الحزب بهدوء بمقارباته للاستحقاقات المحلية، ويعمل على أكثر من مسار.
فإلى جانب تكريس مبدأ الاتفاق، والذي سيضمن استقراراً في الجنوب، وسيكون له آثاره السياسية بشكل مشابه لمرحلة مواجهته لداعش والنصرة وباقي الفصائل المتطرفة بغطاء غربي سبق الاتفاق النووي حينها، وتزامنت مع التحالفات الدولية الغربية لمحاربة الإرهاب في سوريا والعراق، لذا فإن الحزب يستشرف مرحلة مشابهة تتلاقى مع الترسيم وإعادة تفعيل قنوات الحوار حيال النووي الإيراني.
في إطار منفصل كان واضحاً الإحراج الذي وضع به رئيس الجمهورية في ملف ترسيم الحدود مع سوريا من حيث تأجيل النظام لاستقبال الوفد المكلف بالملف، صحيح أنّ زيارة الوفد اللبناني لدمشق لم تُلغَ بل تمّ تأجيلها، لكنّ قرار التأجيل أتى بعبارة ملغومة ومحرجة، وهي "الوقت غير مناسب"، ما فتح الباب على تصورات حيال صعوبة سيشهدها الملف في ظل التحولات الدولية وارتباطه بالحسابات لكل من روسيا وإيران.
وما فعله النظام وضع عون وباسيل، وهما حليفان لحزب الله، في موقف مُحرج جدّاً، ما وضع حدّاً لاحتمال تحديد موعد آخر للنقاش في ملفّ الترسيم البحري على الحدود الشمالية قبل مغادرة ميشال عون نهائياً قصر بعبدا، وتأجيل البحث في ملف ترسيم الحدود مع سوريا إلى فترة لاحقة، لن يكون مرتبطاً فقط بسعي نظام الأسد ليكون الشريك الجديد في عهد رئاسي مقبل، بل يتعدى ذلك لحسابات أكثر تعقيداً مرتبطة بمساعي النظام فتح ثغرة في جدار الحوار مع الدول الكبرى.
ولا يمكن لعون وباسيل أن يعتمدا على تحالفاتهما بحزب الله لتمرير الملف مع الأسد، حتى لو كان لحزب الله تأثير على النظام في ملفات مهمة ومعقدة، ولكن أيضاً للأسد ونظامه حساباته التحالفية والسياسية مع العديد من القوى اللبنانية، ومنهم خصوم لعون وباسيل، وهنا لا معلومات كافية عن جوهر موقف حزب الله، إذا كان يريد الدخول في هذه المحادثات أم لا.
وعليه فإن العديد من الجهات النافذة والمطلعة على الملف باتت تتحدث عن ثمن قد يطلبه النظام للقبول بالجلوس على أية طاولة تفاوض تطال الترسيم البحري مع لبنان شمالاً، والذي قد يمتد لنقاش فعلي حيال النزاع على بعض المساحات البرية كمزارع شبعا جنوباً وباقي النقاط البرّية والمعابر، بالإضافة إلى أن السوريين نقلوا لجهات عديدة، بما فيهم حزب الله، استياءً من استبعادهم من ملف الترسيم البحري مع إسرائيل تماماً، بالإضافة لشعور سوري بتعاطٍ فوقي لبناني معهم منذ الأزمة، وعدم إجراء عون زيارة رسمية لسوريا، على الرغم من الوعود التي أطلقها بداية العهد، والتنسيق الأمني وملفّات نقل الغاز والكهرباء، وبعد كلّ ذلك يمكن الجلوس معاً لتشريح الدخول الروسي إلى منطقة النزاع بين لبنان وسوريا.
وليس لهذه المؤشرات، ما لم يطرأ أي تعديل من الجانب السوري، أية أهمية سوى إعطاء صورة عن نية العهد لتحقيق عنوان لا يعدو شعاراً لا يتجاوز مشروع العهد قبل نهايته بخمسة أيام، ولو أنّه بقي يتيماً متى انتقلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة التي ستدير المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تستحق النظر إليها بمنطق آخر يؤدي بالدرجة الأولى إلى وأد المبادرة في اتجاه سوريا في مهدها، وكانت لاقتصرت مهمة الوفد على إعلان نيات خير وشرب قهوة غير ملزمة لأي طرف مستقبلي.
ورئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يبدي اهتماماً بملفات الترسيم البحري، لم يعطِ الخطوة أية أهمية، قابلها عدم اهتمام حكومي، كذلك فإن التوقيت ليس ملائماً بالنسبة إلى النظام السوري حالياً، خصوصاً أن عهد عون شارف على النهاية، ولا يمكن لدمشق أن تفاوض عهداً راحلاً، وهذا يمكن أن يكون مرتبطاً بسعي سوري للتدخل أكثر في الملف اللبناني، ويفضل أن يحصل بالتعاون مع رئيس جديد يكون على علاقة جيدة بالنظام السوري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.