بنو جاندارلي (تُرسم بالعُثمانية بالجيم المُثلَّثة وبياءٍ غير منقوطة: "چاندارلی"، وبالتُركيَّة المُعاصرة: Çandarlı؛ وتُلفظ: "تْشَانْدَارْلِيه")، هُم أُسرة من أشراف الدولة العُثمانيَّة، اشتهر أفرادها بتقرُّبهم من بني عُثمان وبنيلهم حظوتهم، وبانخراطهم في العمل السياسي حتَّى صاروا يُسيِّرون شُؤون الدولة جنباً إلى جنب مع السلاطين.
وهيمنت هذه الأُسرة على الصدارة العُظمى (رئاسة الوُزراء) في الدولة العُثمانيَّة لِتسعين سنة، تولَّى خلالها 4 من أعيانها هذا المنصب حتَّى جاء عهد السُلطان مُحمَّد الفاتح، فأنهى هذه الحالة سنة 857هـ – 1453م، وأقصى بني جاندارلي عن مراكز اتخاذ القرار لأسبابٍ مُختلفة. ومع أن السُلطان بايزيد بن مُحمَّد (بايزيد الثاني) أعاد تنصيب أحد أفراد هذه الأُسرة في الصدارة العُظمى، بعد أن تربَّع على العرش بُعيد وفاة والده الفاتح، فإنَّ الضربة التي أنزلها الأخير ببني جاندارلي كانت القاضية، فلم تدم صدارتهم الجديدة سوى سنةٍ واحدة، ثُمَّ زال اسمهم من مسرح الحياة السياسيَّة، أقلها المُؤثِّرة.
أصول بني جاندارلي وبداياتهم
بنو جاندارلي قوم من التُركُمان، ترجع جُذُورهم إلى قبائل تُركيَّة بدويَّة نزحت من آسيا الوُسطى واستقرَّت في قلب الأناضول. ويبدو أنَّ أفراد هذه القبيلة أسسوا قريةً في ديارهم الجديدة عُرفت باسم "چاندار" (Çandar)، فنُسبوا إليها. وهذه القرية تقع اليوم ضمن أراضي مُديريَّة "ناللي خان" (Nallıhan) بولاية أنقرة في الجُمهُوريَّة التُركيَّة.
اختلف الباحثون في تحديد معنى لقب هذه السُلالة، فيُحتمل أنَّ "چاندار" (بالجيم المُثلَّثة، تُلفظ: تْشيه) هي تحريف "جاندار" الفارسيَّة. وهذه كلمةٌ منحوتةٌ من قسمين: "جان" وتعني "الروح" ، و"دار" ومعناها "صاحب"، فيصير معنى اللقب كاملاً: ذا الرُّوح، وهو المعنى الحرفي. وقيل غير ذلك.
بُعيد قيام الإمارة العُثمانيَّة عقب تفتُّت وانحلال دولة سلاجقة الرُّوم (قُرابة سنة 687هـ – 1299م)، أخذ عُثمان بك بن أرطُغرُل (عُثمان الأوَّل) ثُمَّ ابنه أورخان، يتوسَّعان على حساب البيزنطيين غربي الأناضول، وكلما تقدَّمت الفُتُوحات الإسلاميَّة نزحت المزيد من القبائل والعشائر التُركُمانيَّة لِتستوطن البلاد المفتوحة، لا سيَّما إن كانت تلك القبائل والعشائر قد شاركت في الغزوات والفُتُوحات، فيُقطعها الأمير الحاكم أراضي جديدة. وهكذا كان بنو جاندارلي من جُملة التُركُمان النازحين إلى مدينة نيقية بعدما افتتحها أورخان بك بن عُثمان سالف الذِكر سنة 731هـ – 1331م. ومن المعروف أنَّ الجاندارليين كانوا حينذاك جُزءاً من جماعة الآخية الفتيان، وهؤلاء تكتُّل من الحرفيين والتُجَّار وأرباب المصالح والدُعاة كانوا يهدفون للدفاع عن المصالح الاقتصاديَّة والدينيَّة لِلمُسلمين في الأناضول، مُنذُ أن انحلَّت سُلطة سلاجقة الروم وضعُفت قبضتهم على البلاد. أي إنَّ هذا التكتُّل أشبه بنقابةٍ مُعاصرة. وقد أتاح لهم هذا، إضافة إلى قتالهم تحت لواء الإمارة العُثمانيَّة الناشئة، صلات متينة مع عُثمان بك ثُمَّ ابنه أورخان.
بُزُوغ نجم الجاندارليين
أوَّل من برز من بني جاندارلي وتولَّى منصباً مرموقاً في الدولة العُثمانيَّة كان خليل خير الدين باشا، الشهير بـ"قره خليل خير الدين باشا" (تُلفظ "قَرَا" وليس "قُرَّة" بالتاء المربوطة) أو "خليل خير الدين باشا الكبير"، فقد عُيِّن قاضياً للعسكر في مدينة بيله جك خلال عهد أورخان بك ثُمَّ قاضياً لمدينة نيقية (التي سُمِّيت مُنذ ذلك الوقت "إزنيق – Iznik"). ثُمَّ رُقِّي إلى الصدارة العُظمى أواخر سنة 1364م، بأمرٍ من مُراد بن أورخان، ثالث سلاطين بني عُثمان، فاستمرَّ بِمنصبه هذا إلى أن أدركه الموت سنة 789هـ – 1387م. ومن أهم مآثر خليل باشا الكبير، قيادته الجُيُوش الفاتحة لمدائن كوموتيني وكسانتي وقولة ودرامة وسيروز (سيرس) وسالونيك ومناسطر وأوخريدة (جميع هذه المُدن تقع اليوم ضمن حُدُود اليونان). ومن المآثر المنسوبة إليه أيضاً ابتكار نظام "الدوشيرمة" (Devşirme) التي يُسمِّيها الغربيُّون "ضريبة الغلمان"، وهي أن تأخذ الدولة فتىً سليماً مُعافاً غير وحيد لوالديه، من كُل عائلة من العائلات البلقانيَّة المسيحيَّة من رعايا السلطنة العُثمانيَّة، فتتولَّى تربيته وتعليمه فنون الحرب والقتال، وعدداً من المعارف الضروريَّة نحو القراءة والكتابة واللُغة التُركيَّة وبعض العُلُوم، وتُنشئه تنشئةً إسلاميَّة، ثُمَّ تضُمُّه إلى جُيُوشها، فتكوَّن لديها نتيجة ذلك جيشٌ مُتنوِّع الأُصُول، لا يعرف أفراده حرفةً سوى القتال، ولا يعرف التحزُّب والانشقاق إليه سبيلاً، لانعدام الصلات العشائريَّة والقبليَّة بين أفراده وسائر المُجتمع العُثماني.
وبعد وفاة خليل باشا الكبير، خلفه ابنه علي باشا، ودامت صدارته من سنة 789هـ – 1387م إلى سنة 809هـ – 1406م، أي إنَّهُ شهد أواخر عهد السُلطان مُراد بن أورخان (مُراد الأوَّل) وكامل سلطنة بايزيد بن مُراد (بايزيد الأوَّل) وشطراً من عهد الفوضى الذي تلا هزيمة تيمورلنك لِبايزيد، واقتسام أولاد الأخير أراضي الدولة العُثمانيَّة، وفي هذه الفترة تولَّى صدارة الدولة تحت حُكم سُليمان چلبي بن بايزيد. وساهم علي باشا في قيادة الجُيُوش العُثمانيَّة في الفُتُوحات والحُرُوب كما فعل والده، فكان على رأس الجيش في معركة نيكوبلي (نيقوپوليس) الشهيرة التي انتصر فيها المُسلمون نصراً مُبيناً على الجُيُوش الصليبيَّة العرمرميَّة بقيادة سيگيسموند ملك المجر، وكان من جُملة القادة الذين حاصروا القُسطنطينيَّة حينذاك. ومن مآثره أنَّه هو الذي قاد المُفاوضات مع الإمبراطور البيزنطي، والتي أدَّت إلى رفع الحصار المذكور، لقاء إنشاء حيٍّ لِلمُسلمين في المدينة، به مسجدٌ وقاضٍ يرجعون إليه.
وبعد وفاة علي باشا خلفه رجلان على التوالي، كلاهما لا ينتمي لبني جاندارلي (خليل باشا العُثمانجقلي = Osmancıklı Halil Paşa؛ وبايزيد باشا الأماسيلي = Amasyalı Bayezıd Paşa)، ثُمَّ خلفهما إبراهيم باشا بن خليل باشا الكبير، فدامت صدارته من سنة 1421 إلى سنة 1429م، أي خلال عهد السُلطان مُراد بن مُحمَّد (مُراد الثاني). ولمَّا مات إبراهيم باشا خلفه رجلٌ من خارج الأُسرة أيضاً، ثُمَّ خلف هذا خليل باشا بن إبراهيم الشهير بـ"خليل باشا الأصغر" تمييزاً عن جدِّه خليل باشا الكبير، فدامت صدارته قُرابة 14 سنة (1439 – 1453م)، شهد خلالها ما تبقَّى من عهد السُلطان مُراد الثاني وأوائل عهد ابنه مُحمَّد الفاتح.
وخليل باشا الأصغر سالف الذِكر يُعد أحد أبرز الصُدُور العظام في تاريخ الدولة العُثمانيَّة، وشُهرته نابعة من سوء علاقته مع السُلطان مُحمَّد الفاتح، وذلك لسببين: خداعه السُلطان لينزل عن العرش، وصلته المزعومة بالروم. ويشتهر أيضاً لشهوده واقعتين من أهم الوقائع في التاريخ العُثماني خُصوصاً والإسلامي عُموماً: واقعة وارنة (ڤارنا) وفتح القُسطنطينيَّة، وخلال صدارته فقد بنو جاندارلي حظوتهم لدى بني عُثمان.
أسباب سُقُوط بني جاندارلي
تنحَّى السُلطان مُراد الثاني عن العرش سنة 848هـ – 1444م بعدما تلقَّى هزيمةً نكراء على يد تحالفٍ صليبيّ، وترك لابنه الفتى مُحمَّد (الفاتح لاحقاً) البالغ من العُمر 14 ربيعاً تدبير شُؤون المُلك. فاستغلَّت أوروبا هذا الحدث وأعلنت الحرب على الدولة العُثمانيَّة، ولمَّا كان الخطر أكبر من قُدرات السُلطان الفتى، اضطُرَّ والده السُلطان مُراد أن يعود لقيادة جُيُوش الدولة العُثمانيَّة والدفاع عن بلاده، فقهر الصليبيين في موقعة وارنة ثُمَّ عاد إلى عُزلته، لكنه لم يمكث فيها طويلاً هذه المرَّة أيضاً، إذ ثارت الإنكشاريَّة بسبب تخفيض السُلطان مُحمَّد زنة الآقجة (العملة الفضيَّة العُثمانيَّة) وانخفاض قيمة رواتبهم، وطالبوا بعودة السُلطان مُراد إلى الحُكم. فما كان من الصدر الأعظم، حسب رواية المُؤرِّخ العُثماني أحمد مُنجِّم باشي، أن خدع السُلطان مُحمَّد ليتنازل عن العرش، فاقترح عليه أن يعرض السلطنة على والده تطييباً لِقلبه وخاطره، وأكَّد عليه أنَّ الأخير لن يقبلها وأنَّهُ سيُفضِّل البقاء في عُزلته، وأنَّ ذلك سيكون سبباً لازدياد حُبِّ الوالد لِابنه وتقديره إيَّاه، فصدَّق الفتى هذا الكلام. وكان الباشا قد راسل السُلطان مُراد قبل ذلك يشرح له الوضع ويدعوه للرجوع، فقبل ذلك للحيلولة دون تفاقم ثورة الإنكشاريَّة. ولمَّا عاد مُرادٌ إلى العاصمة أدرنة، استقبله ابنه مُحمَّد مُقبِّلاً يده ومُلتمساً منه الجُلُوس على تخت المُلك، فقبل مُراد على الفور ودعا لِولده وأعاده إلى مدينة مغنيسية التي كان يحكمها قبل تولّيِه عرش السلطنة. فلم يجد مُحمَّد بداً من الامتثال لِأمر أبيه، وعلم أنَّ هذا من سعي وتدبير خليل باشا، فأسرَّها في نفسه حتَّى حين.
ولمَّا توفي السُلطان مُراد وتربَّع السُلطان مُحمَّد على العرش، وسار بخطَّته الكُبرى لِفتح القُسطنطينيَّة، أبقى خليل باشا في منصب الصدارة العُظمى على الرُغم من سوء علاقتهما، ذلك أنَّ خليل باشا كان يرأس الفئة العُثمانيَّة المُناوئة لِقتال الغرب وتوسيع نطاق الفُتُوحات في أوروبا، خوفاً من وقوع نكبات بالدولة كما حصل في عهد السُلطان مُراد، فكان وُجوده ضروريّاً للإبقاء على سياسة التهدئة التي فرضت نفسها حينذاك، وسمحت للسُلطان مُحمَّد بإعداد العدَّة بِصمت لتحقيق مشروعه الكبير.
والحقيقة أنَّ خليل باشا ظلَّ مُتخوفاً ومُخالفاً لمشروع فتح القُسطنطينيَّة مُنذُ أن أعلن عنه السُلطان مُحمَّد، وطيلة فترة الحصار، ولعلَّ ذلك هو ما تسبب بإشاعةٍ مفادها أنَّهُ كان على تواصُلٍ مع الروم ويتلقَّى منهم الرشاوى لثني السُلطان عن مُخططاته، حتَّى دعاه العُثمانيُّون بِـ"شريك الكافر". ولمَّا تمَّ للمُسلمين فتح عاصمة الروم العتيقة، زجَّ السُلطان مُحمَّد بالصدر الأعظم وأولاده في السجن واستصفى أموالهم، وقيل قتله بعد 40 يوماً، وقيل بل مات ميتةً طبيعيَّة من شدَّة قهره. فكانت تلك النهاية الحقيقيَّة لصدارة بني جاندارلي في الدولة العُثمانيَّة. ومن المعروف أنَّ السُلطان مُحمَّد لم يرَ في فتح القُسطنطينيَّة نهاية طُمُوحه، بل مُجرَّد البداية، التي يُرجَّح أنه خطَّط لها أن تُتوَّج بِفتح روما نفسها، وقد توسَّعت الفُتُوحات في عهد توسُّعاً عظيماً، فوصلت مساحة دولته عند وفاته إلى 2,214,000 كيلومتر مربع في الأناضول والبلقان، ولا شكَّ في أنَّ تطبيق سياسة الفُتُوحات هذه لم يكن لها أن تتم بسلاسة بِوُجود تيَّارٍ سياسيٍّ مُناوئٍ لها، على رأسه بني جاندارلي، فكان لا بُدَّ من إزاحتهم وتحجيمهم.
ومن جهةٍ أُخرى، من المُتفق عليه أنَّ السُلطان مُحمَّد كان صاحب فكرٍ تقدُّميٍّ مُخالف للفكر التقليدي لأشراف العُثمانيين، المحصور ضمن العادات والتقاليد التُركُمانيَّة. فإنَّ السُلطان علم أنَّهُ صار يحكم دولةً عالميَّة مُتنوِّعة الشُعُوب مُتعددة الثقافات، ولا بُد من إشراك هؤلاء في إدارة شؤون الدولة والاستفادة من خبراتهم. ومن جهةٍ أُخرى، فقد مضى على صدارة بني جاندرالي قُرابة 90 سنة، فصاروا وكأنهم سُلالة حاكمة مُوازية لِبني عُثمان، وكأنهم دُويلة ضمن الدولة، فلا يصح استمرارهم على هذا الشكل خوفاً على وحدة الدولة ومُلك العُثمانيين. كذلك، فإنَّ الاستعانة بِصُدُورٍ عظام من غير أشراف الدولة، من شأنه أن يُؤدِّي دور الاستعانة ذاته بِجُنُود ذوي أُصُولٍ بلقانيَّة مسيحيَّة: ضمان عدم تحزُّب هؤلاء الصُدُور لعشائرهم وقبائلهم، وإخلاصهم لِلسُلطان ذاته الذي تربُّوا مُنذُ صغرهم على طاعته طاعة الولد لأبيه. وبذلك تتضح الصورة الشاملة لسُقُوط هذه الأُسرة من مسرح الحياة السياسيَّة المُؤثرة أقلُّه، إذ إنَّ أفرادها استمرُّوا يعملون في وظائف إداريَّة مُختلفة، لكنَّ أحداً منهم لم يتربَّع على عرش الصدارة العُظمى سوى مرَّة في عهد السُلطان بايزيد الثاني، وكان ذلك لإسكات المُمتعضين من سياسة أبيه السُلطان مُحمَّد الفاتح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.