يقول الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي:
"من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة.. ابدأ حكايتك من ثانياً"
لا يهمّ من خطط لمذبحة بورسعيد ولا يهم من أقنع الجماهير بالسفر دون خوف، ولا يهم من مهد الطريق لجيوش البلطجية ولا من قام بإغلاق الأبواب، لا تسأل عن إخفاء الأدلة ولا المقاطع المصورة الواضحة، ولا من حمى الجناة الحقيقيين وزج بدلاً منهم بجناة آخرين يتشكك البعض في هوياتهم وحقيقة ما ارتكبوه.
لا تسأل عن الحساب ولا العقاب ولا القصاص، غير مسموح لك بالسؤال عن موعد تنفيذ حكم الإعدام بحق المتورطين في الجريمة (طبقاً لحكم المحكمة).
غير مسموح لك بالدخول للمباريات وأنت تحمل أي إشارة لذكرى ذلك اليوم حتى لو كان مجرد رقم لأعداد الضحايا، حتى لا تعكر صفو أحد ممن يحملون على رؤوسهم العديد من البطحات، وإن فعلت سننسى كل تلك الخطايا السابقة وسنعتبرك مذنباً ثم تنال عقابك الفوري.
إجرام فريد من نوعه
لا يوجد في تاريخ الكوارث الرياضية في الملاعب ما يشير أبداً للتخطيط لها سياسياً، دائماً ما كانت الملاعب بعيدة عن تلك السياسات المتعلقة بالتصفية الجسدية أو الاعتداء البدني إلا في فترات الحكم الشمولي للديكتاتور الفاشي فرانكو بحق سكان كاتالونيا، لذلك تبقى مذبحة بورسعيد حدثاً فريداً من نوعه، أزعم أن دوافعه لم تكن كل هذا العدد الهائل من القتلى، وإنما كان الهدف محاولة تأديب أحد أفرع الألتراس في مصر للتوقف عن مهاجمة المجلس العسكري، وبما أن الفشل حينها كان عنوان المرحلة، فحتى التخطيط للتأديب فشلوا فيه، وخرج الأمر عن السيطرة وصارت مذبحة رياضية تم تنفيذها على يد مجموعة من الغوغاء، منساقين خلف مجموعة أخرى من المأجورين.
الأولتراس
من يومها إلى وقتنا هذا صار العدو الأول للسلطة هم مجموعات الأولتراس، صار العداء واضحاً وجلياً والتحريض عليهم علناً بدون مواربة لدورهم الفعال في ثورة يناير ومشاركتهم المميزة والمنظمة فيها وحماية الثورة في الـ ١٨ يوماً الأولى من كارهيها، بعد ٣٠ يونيو صار الأمر أكبر من مجرد تحريض، أصبحت المطاردات الأمنية والملاحقات المتتالية عنواناً للمرحلة، أصبحت السلطة تناصب العداء لمجموعات الأولتراس وتطاردهم في كل ملعب وكل مكان وتعتقلهم، وفي حال عدم تسليم أنفسهم طواعية أو القبض عليهم قسراً كانت تعتقل أهلهم وذويهم، صار الأمر مرعباً للجميع خصوصاً وأن الحضور الجماهيري كان حينها ضعيفاً، وشيئاً فشيئاً تم منع الجماهير نهائياً من الحضور ليقتصر الأمر على جماهير مدجنة تحضر فقط في مباريات منتخب مصر وغير مسموح لها حتى برفع أعلام فلسطين.
الحل هو الحل
في ٢٠١٨ وبعد كثير من الملاحقات الأمنية والاعتقالات أعلنت روابط أولتراس الأهلي والزمالك عن تجميد النشاط وحل الرابطة والتوقف عن التحضير للفعاليات والدخلات، أمر معه كان من المفترض أن يتم السماح للجماهير بالحضور والتواجد، ولكن السلطة رافضة تماماً ومصرة على المضيّ في طريق العداء حتى مع الجماهير العادية التي لا تفهم حتى معنى كلمة أولتراس وكل ما ترجوه هو حضور المباريات والاستمتاع بفريقها ومناصرته والهتاف باسمه، جماهير جعلوا من تلك الأندية وطناً بديلاً؛ لأن الوطن الأصلي كان وما زال قاسياً عليهم.
لا لأنصاف الحلول
يقولون عن كرة القدم إنها الملهاة الأكبر للشعوب، وإن السلطات القمعية تستخدمها لجعل العامة ينصرفون عن أحوال البلاد ووضعها السياسي والاقتصاد، حدث هذا كثيراً وأبرزه ما حدث في الأرچنتين عام ١٩٧٨ على يد الچنرال خورخي فيديلا، فلماذا تاه هذا الأمر عن السلطات المصرية؟
لم يستخدم النظام المصري حيلة الإلهاء في الكرة وفتح الملاعب وترك الجماهير تمرح وتهتف لسببين: أولهما ما هو متعلق بعدم المرونة، النظام المصري نظام غير مرن إطلاقاً مع الشعب المصري ولا يعطي لهم إصبعه خوفاً من أكل باقي الذراع ولا يقدم أنصاف الحلول ولا أرباعها حتى ولا يهادن أو يتهاون حين يتعلق الأمر بأمنه وسلامته، لذلك فالمنع المطلق هو الحل لكل شيء، منع النشر ومنع الحديث ومنع حضور المباريات.
السبب الآخر جزء من السبب الأول وهو ما يتعلق بالخوف من كسر هيبة قوات الأمن في حال حدث تشابك بينها وبين الجماهير أو تحول واحدة من المباريات لمظاهرة سياسية تكسر مرة أخرى حاجز الخوف والرهبة عند جموع الشعب بعد أن ظلت السلطة ترسخه في عقول وقلوب الجميع لما يقارب العشر سنوات.
تذكرتي
بعد المناشدات والحنق الشعبي بدأت تعطي الدولة للجماهير جرعات الحضور الجماهيري من على طرف الملعقة، شيء أشبه بما يتم ممارسته في إحدى دور رياض الأطفال على غرار (لو سمعت الكلام حديك حاجة حلوة)، هنا الأمر أصبح أنه لو التزمت الجماهير بالآداب العامة وعدم الخروج عن النص وبالحضور المحترم بعيداً عن الهتافات المعادية والشتائم أو استخدام الشعارات السياسية في كرة القدم فسنعيد النظر في أعداد الحضور الجماهيري.
تم إنشاء منصة "تذكرتي" التابعة للشركة المتحدة التابعة بدورها لجهاز المخابرات العامة، وتم عمل نظام يبدو من الخارج جيداً لكنه يحمل في طياته الكثير من اللوغاريتمات.
من يُرد حضور المباريات عليه التطعيم ضد كورونا، وشهادة التطعيم لها سعر ثم التقديم على عمل بطاقة المشجع له سعر آخر والحصول على تذكرة مباراة فريقك الأولى لها سعر ثالث، وبذلك إن كنت تريد الحضور لمباراة فريقك الأولى في الدوري عليك دفع ثلاثمئة جنيه مصر ثم مئة جنيه أخرى في كل مباراة، وهو مبلغ صعب في ظل الظروف الحالية التي تمر بها البلاد وتنعكس على الحلقة الأضعف في المنظومة المؤسسية وهو المواطن.
كل تلك الطلبات ولا نضمن لك بعد ذلك الموافقة على طلبك بالحضور خاصة لو كان لك نشاط سياسي سابق، أو تم تسجيل اسمك كأحد أفراد مجموعة الألتراس.
كان الهدف من تذكرتي واضحاً، وهو التحكم في جودة ونوعية مشجعي كرة القدم، تغيير هوية مشجع كرة القدم، العامل والحرفي البسيط المضغوط والقابل للانفجار لمشجع آخر يأتي ليشجع "EGYPT"، وبحوزته كوب من إسبرسو.
كما كان الهدف الآخر هو منع كل أعضاء الأولتراس من الحضور للملاعب عن طريق عمل حجب لكل الأعضاء الفاعلين في روابط الأولتراس.
إحياء الذكرى
تحرص أندية ليفربول الإنجليزي ويوفنتوس الإيطالي على إحياء ذكرى سنوية لكارثة ملعب هيسيل في بلچيكا والتي راح ضحيتها ٣٩ مناصراً نتيجة لانهيار جزء من المدرج بعد أحداث الشغب التي حدثت من الجماهير، حرصهما هذا لتكريم جميع من راحوا ضحايا لهذه الكارثة وتكريماً لذويهم، وكذلك من رؤيتهما المتزنة للأمر ولأخذ العظة والعبرة لكل الأجيال الجديدة فيما قد يفعله التعصب الرياضي المقيت، الأمر غير موجه للاتحاد الأوروبي ولا مسؤولي الأمن في بلچيكا ولا منظمي المباراة، الأمر فقط لإحياء تلك الذكرى في النفوس وتسليط الضوء على من راحوا ضحيتها، لو كان المسؤولون في مصر حريصين على عدم تكرار تلك الحوادث مرة أخرى (هذا إن كانوا غير متورطين أصلاً) لحرصوا أشد الحرص على إظهارها والترويج لها والتحذير من تكرارها، ولكن متى كان الذئب حريصاً على بقايا ضحاياه؟
لم تكن واقعة حرق وطمس رقم ٧٢ من على قمصان جماهير الأهلي إلا إجراء من ضمن إجراءات عديدة فعلها النظام لمحاولة طمس الحقيقة نفسها وقتل ذكراها في النفوس، إجراء سبقته إجراءات عديدة كان هدفها الأوحد هو حماية الجاني الحقيقي وإجبار أهالي الشهداء وأصدقائهم وذويهم على التعايش السلمي مع من خطط وحرض لقتلهم، ورغم تفاهة هذه الفعلة إلا أنها أوضحت للجميع حرص النظام على إخفاء الجريمة بكل الطرق الممكنة داخل حتى عقول وقلوب من عايشوها وتعاطفوا معها.
المنتصر دائماً هو من يفرض إرادته وهو من يضع الشروط والقوانين والأحكام ويجبر الجميع عليها، وطمس أرقام عدد الشهداء هو واحد من تلك القوانين التي سنها النظام الحاكم ونجح فيها بشدة، لكن هل يستطيع أحد طمس هذه الذكرى في القلوب؟
ستظل ذكرى هذا العمل الإجرامي حية في قلوب المحبين مهما حاولوا طمسها من قمصان اللاعبين والجماهير، تذكر الجميع بالفاعل الحقيقي وتفضح جرمه انتظاراً لقصاص قد يتأخر في الدنيا، ولكنه لا يتأخر أبداً عند ربّ الدنيا.
رحم الله الـ ٧٢، والـ ٢٠.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.