كثُر الحديث منذ عقد من الزمن حول انتهاكات وأخطاء الماضي الجسيمة بمنطقة تندوف، حيث يقطن الآلاف من الصحراويين بمخيمات على أرض الجزائر، إثر اندلاع نزاع حول أحقية السيادة على إقليم الصحراء بين المملكة المغربية من جهة والجزائر وتنظيم البوليساريو من جهة ثانية.
شكَّلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان منهجاً لمجموعة شابة من قادة المخيمات منذ تأسيس تلك التجمعات البشرية، في غياب أي خطة دولية أو وطنية لتدبيرها، على أساس ضمان الحماية والوقاية لهؤلاء الأشخاص من قبل هيئات ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وكذا مؤسسات الدولة المضيفة لتلك المخيمات.
إن الحديث عن تجاوز انتهاكات الماضي الأليم في مخيمات تندوف بالجزائر، لا يمكن تصوره خارج تنفيذ وتتبع شامل لمشروع المصالحة بالجزائر.
فالكلام عن إعادة بعث جو من الثقة بين مجتمع الضحايا والمؤسسات المتورطة في إحداث أضرار بالغة للأشخاص والجماعات لا يستقيم دون اتفاق جميع الإرادات، بضرورة ترجيح القناعة على أن أي إعادة ترتيب للعلاقات بين كافة مكونات المجتمع الجزائري وقاطني مخيمات تندوف والسلطات الجزائرية ينبغي أن تنطوي لزاماً على إرادة سياسية بضرورة إحلال السلم والانتقال بالبلد ككل، بما يشمل مخيمات الصحراويين على أراضيه من فترة الاضطراب وفقدان الثقة في الدولة والمؤسسات إلى الاستقرار وإعادة الثقة لاستشراف مستقبل أفضل والتطلع إلى إشراك حقيقي للضحايا في مرحلة الانتقال وطي صفحة الماضي، وصولاً إلى واقع جديد أكثر أماناً وسلاماً وازدهاراً.
يأتي الحديث عن تجاوزات تنظيم البوليساريو ضد فئات عريضة من ساكني المخيمات التي يشرف على تدبيرها، في إطار تواتر تصريحات لمسؤولين عن تلك الحركة عن عزمهم تعويض ضحاياهم من الصحراويين، عما لحق بهم من ضرر جراء تعرضهم لصنوف الانتهاكات التي أودت بحياة الكثير منهم، وتركت جروحاً غائرة في نفوس الناجين.
غير أن الخوض في هذا الشأن البالغ التعقيد، ولّد انطباعاً أولياً بأنّ الأمر ليس لعبة أطفال، نرميها حال إحساسنا بالملل والضجر، والحال أننا في مواجهة إرث ثقيل من السلوكيات الضارة بحياة الآلاف من الأشخاص ومصائرهم وإخضاعهم لعملية تمزيق كامل لنسيجهم الاجتماعي، الذي اشتهر بتعايش مكوناته وببنائه القيمي المتماسك.
فهل تتحقق المصالحة ونسيان إرث الماضي بالاستناد لقرار أمين عام تنظيم البوليساريو؟ وكيف تتم الاستجابة إلى نداءات كهذه دون ضمانات دولية؟ وهل يمكن القبول بمسار عدالة انتقالية تشرف عليها جهة غير حكومية مسلحة، تسبب معظم قادتها في مآسٍ عصية على النسيان لضحاياهم وذويهم؟
إن الترويج لاستعداد حركة البوليساريو لتضميد جراح الصحراويين أمر يعتريه الكثير من اللبس وعسر الفهم لمسألة طي إرث ماضي الانتهاكات الجسيمة وما يرتبط به من سياقات في منطقتنا، حيث إن أي جهة تبحث عن إحداث نقلة نوعية في التعامل مع ماضيها لا بد أن تنحو منحى سليماً للوصول إلى نتائج مُرضية، تستند إلى الحد الأدنى من معايير العدالة الانتقالية.
فالقول بتعويض الصحراويين وحدهم، أو من لم يغير قناعاته بالرغم من تعرضه للقتل والاختفاء القسري والتعذيب، أمر يحتاج للتأمل، لأن هذه المبادرة المقدمة من طرف قادة البوليساريو ستتحول إلى عمل انتقامي أشد بشاعة من الانتهاكات الجسيمة المرتكبة نفسها، إذا ما حاولت البوليساريو الترويج لخطابها العنصري، الذي يفرق حتى بين الضحايا بحسب أصولهم أو أفكارهم أو منشأهم أو قناعاتهم السياسية، بالرغم من عدالتها تجاههم في اللجوء لنفس أدوات القتل والتعذيب.
ويجوز تشبيه ما حصل بأرض تندوف من فظاعات بالوباء الذي انتشر مع تثبيت أعمدة الخيمة الأولى بشكل مفاجئ وسريع على كامل المجال الترابي، الذي يؤوي المخيمات وجنوب المغرب وبعض مناطق شمال موريتانيا، لأن المتتبع لمجريات الأحداث سيصل حتماً إلى خلاصة تفيد بأن الهدف من وراء حشد هذا العدد الكبير من الأشخاص في منطقة أجنبية، وبتلك السرعة والقسوة التي تتناقض جذرياً مع طبيعة وأسلوب حياة أهل الصحراء، لم يكن بناء دولة على أرض الإقليم شغله الشاغل، بل نوازع أخرى ذاتية قد تتكشف مستقبلاً حينما يوضع قطار المصالحة على سكته الصحيحة.
يهدف تحقيق المصالحة عموماً إلى قلب صفحة الماضي المثقل بالجراحات، ومحاولة رتق تلك التشققات التي تفتك بتماسك المجتمعات إذا طال أمدها، ويصعب العثور معها على علاجات شافية لتلك الفتوق الناتئة خارج وصفة العدالة الانتقالية في كليتها وشمولية معاييرها وشفافية آلياتها ووضوح منطلقاتها.
وتأسيساً على هذا التحديد المفاهيمي، يمكن القول إن التعافي من ندوب الماضي الأليم لا يمكن أن يتأتى إلا في إطار حزمة من التدابير والإجراءات تضمن انتقالاً مجتمعياً آمناً يصون الكرامة والسلاسة في المرور من حالة الضبابية والاضطراب إلى الاستقرار، في أفق تلمس حسنات سيادة القانون.
هناك حراك حثيث وسط مجتمع الضحايا بخصوص قرار جماعة البوليساريو تعويض الضحايا، لكن بقيت نقاط كثيرة تحتاج للتوضيح، من أبرزها كيفية تنظيم مصالحة بين الضحايا وجلاديهم في كنف جماعة غير حكومية مسلحة، كان مسؤولوها ينكّلون بضحاياهم، ويسعى نفس المخالفين لمنح صكوك الغفران للطرف الأضعف، مقابل تعويضات مادية لن تحفظ كرامة من استلبت آدميتهم في وضح النهار تحت مسميات مختلفة، تارة بنعت أبرياء بمجموعات للتجسس لصالح فرنسا، وتارة أخرى يتم الزج بهم في غياهب حفر سجن "الرشيد" الرهيب، على أساس هويتهم الموريتانية، وفي حالات أخرى بحكم انتماء الضحايا لمكونات قبلية، يُكنّ لها مهندسو الانتهاكات عداءات تعود لزمن "السيبة" في بلاد المغرب العربي.
الحقيقة أن أي خطوة علاجية لإرث ماضي الانتهاكات الجسيمة بمخيمات تندوف، لا تستحضر مسؤولية وانخراط دولة الجزائر باعتبارها طرفاً حاضناً للمخيمات وراعياً للانتهاكات، لا يمكن أن ترى النور في غياب استقرار مفقود وسلطة مسؤولة وتواجد على أرض الغير، وأن هذا الأخير هو الطرف الذي يحوز صلاحية تطبيق ولاية وطنية قضائية وتشريعية وتنفيذية.
والأنكى من ذلك كله أن يشرف الجناة على مصالحة، هم من رمى بمكوناتها في صراع عنيف، كاد أن يقوض وجودها، علاوة على أن تنفيذ أي مصالحة للملمة شتات أهل الصحراء لن يصح إلا بتحقيق شرط مساءلة الجناة.
ويُجمع فقهاء القانون الدولي على عدم إمكانية اختزال مسار عدالة انتقالية في منح تعويضات فقط، وسيظل إجراء من هذا القبيل قاصراً عن فهم غايات العدالة الانتقالية المتمثلة أساساً في دعم شروط الاستقرار عبر تشجيع تصالح بين كافة فئات المجتمع، ينبني على العدالة وسمو سيادة القانون، قصد تجاوز حقبة انتهاكات الماضي.
إن معالجة موضوع الانتهاكات الجسيمة في مخيمات تندوف يجد مرتكزه في تحمل السلطات الجزائرية مسؤولياتها الكاملة في كشف الحقيقة وجبر الضرر ومساءلة المخالفين وتقديم ضمانات عدم التكرار، بحكم تواجد المخيمات على أراضيها، ومن هذا المنطلق تعتبر صاحبة الولاية القانونية والإقليمية والقضائية، وهي من يجب أن يدير عملية العدالة الانتقالية.
تنظيم البوليساريو لا يملك أية صلاحية قانونية بموجب قواعد القانون الدولي، على أرض لا تبسط سلطتها عليها، ولا يحق لها أن تشرع في مصالحة إلا على إقليم تمتلك سيادة عليه، وهي فرضية غير متاحة في حالة منطقة تندوف.
قد يعتقد البعض من مشايعي تنظيم البوليساريو، أن ما قدمه هذا الأخير كفيل بمحو الإرث الأليم، لكن هذا الاعتقاد لن يجد مستنداً في القانون الدولي أو في تجارب العدالة الانتقالية في العالم، اعتباراً لأن أي إرادة للتصالح، كخطوة علاجية لتشوهات الماضي، يجب أن تقترن لزاماً بتشكيل لجنة مستقلة للحقيقة في الدولة الحاضنة للمخيمات، تختص بالنظر في الأحداث التي جرت، وتقديم نتائج عملها للقضاء والإعلام، قصد تعزيز المعرفة بما جرى ودعم توثيق الأحداث والسياقات وحفظ الذاكرة.
فالهدف الأساسي من المجازفة بفتح ملفات انتهاكات الماضي هو إشعار ضحايا البوليساريو بالأمان والكرامة، وحفظ حقهم في مقاضاة المرتكبين لتلك المآسي الإنسانية، ويتم ذلك عبر إنشاء محكمة خاصة بموجب قانون العدالة الانتقالية، تُكلف بملاحقة مرتكبي الجرائم، سواء أكانوا تابعين لدولة الجزائر أو الجماعة غير الحكومية المسلحة المتمثلة في تنظيم البوليساريو.
غير أن تحقيق هذا المراد لن يكتمل سوى بتقديم تعويضات مالية لمن تعرضوا للانتهاكات، وكذا رد اعتبار معنوي من خلال تخليد ذكرى الضحايا في مناهج التعليم، وتغيير أسماء المدارس والمراكز وغيرها، لتكريس الدروس المستفادة من المأساة الإنسانية التي وقعت بتلك المنطقة.
فكل تسوية لإرث ماضي الضحايا بريف تندوف الصحراوي لا يراعي كفالة المساءلة وإحقاق العدل والمصالحة، وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، عبر اتخاذ تدابير قضائية وغير قضائية لمعالجة إرث الماضي وإنصاف الضحايا وملاحقة مرتكبي الجرائم ومنع إفلاتهم من العقاب، سيجر المنطقة إلى مزيد من العنف والفوضى، وسيفتحها على المجهول والقمع السياسي الذي عمر طويلاً بين الخيام وفي جنباتها، حتى كاد أن يشكل جزءاً ثابتاً من المشهد اليومي لمخيمات تندوف.
وتفادياً لأعطاب الماضي، يجب أن ننتبه كثيراً لئلا نقع في فخين، أحدهما مرتبط بتعزيز الشعور بالإفلات من العقاب، وثانيهما يتجلى في تنامي الرغبة في الانتقام، في غياب أية إرادة سياسية صادقة لمعالجة إرث الماضي من قبل الدولة المضيفة للمخيمات، ومن قيادة تنظيم البوليساريو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.