عاصفة الانقلابات الإفريقية تهدد النفوذ الفرنسي.. هكذا انقلب سحر باريس عليها

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/24 الساعة 08:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/24 الساعة 08:40 بتوقيت غرينتش

تمتد الهيمنة الفرنسية على إفريقيا إلى القرن السابع عشر، حيث بدأت فرنسا احتلال مناطق القارة واستغلال سكانها المحليين منذ 1624 عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، وتأسس الإرث الاستعماري والنفوذ الفرنسي في إفريقيا منذ مؤتمر برلين سنة 1884 الذي قسم القارة الإفريقية بين نفوذ قوى دولية استعمارية، وظلت فرنسا متشبثة بالمكتسبات التي حصلت عليها عنوة بفضل احتلالها هذه الدول وبما تلا ذلك من اتفاقيات الاستقلال، ثم بالحفاظ على علاقات وطيدة مع أنظمة ديكتاتورية ومواجهة كل الدول التي حاولت الخروج من دائرة السيطرة الفرنسية؛ عن  طريق انقلابات عسكرية أو اغتيالات مدبرة، فضلاً عن الاستهداف المباشر لاقتصادها.

المشهد الإفريقي بدأ يتغير خصوصاً مع تغير السلطة في مالي وفي دول مجاورة بشكل صب في غير مصلحة فرنسا وفتح الباب أمام امتداد نفوذ قوى أخرى أبرزها روسيا.
كما كان الموقف الفرنسي من الانقلابات التي جرت في عدة دول إفريقية مكشوفاً، فأيدت من وجدت أنه في صالحها، فيما عارضت من رأت فيه غير ذلك، فظهرت مبادئها المعلنة من حرية وإخاء حيناً واختفت حيناً آخر. دون أن تكلف نفسها عناء تطبيق المعايير التي تتحدث عنها دوماً بشكل إيجابي على إفريقيا.

 لكن ما لم يدركه الفرنسيون أن إفريقيا تتطور، في حين أن الذهنية الاستعمارية لدى باريس لم تتطور بالقدر نفسه، فاستمرت تنظر إلى القارة السمراء باعتبارها منجماً للثروات ومصدراً للاستفادة فقط، لهذا سعى الرئيس الفرنسي ماكرون من خلال خطابه في قمة إفريقيا.. فرنسا           في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بمدينة مونبلييه إلى تصحيح الأخطاء لإعادة تموضع باريس في مناطق نفوذها التقليدية، إلا أن الاستراتيجية الفرنسية تظل محدودة الأثر، فالأفول الفرنسي في إفريقيا لم يرتبط فقط بتصرفات فرنسا أو قراراتها، وإنما وجد بعض روافده في قوى دولية بدأت تصوّب أنظارها نحو القارة السمراء وتأمل أن تنال هي الأخرى بعض المكاسب، بعد أن كانت فرنسا هي اللاعب الوحيد في إفريقيا، كما أن قدرات فرنسا الاقتصادية تظل محدودة أمام العديد من الشركاء الإقليميين والدوليين مثل الإمارات وتركيا والصين والولايات المتحدة وروسيا.

 كل ما سبق يدفعنا إلى طرح الإشكالية التالية: إلى أي مدى أصبحت الانقلابات العسكرية عاملاً في تآكل دور فرنسا في إفريقيا؟

الانقلابات عاصفة تهدد النفوذ الفرنسي

شهدت بوركينافاسو إحدى مستعمرات فرنسا السابقة في 30 سبتمبر/أيلول 2022 انقلاباً أطاح برئيس المجلس العسكري الحاكم الذي وصل إلى السلطة إثر انقلاب في 23 يناير/كانون الثاني 2022، وكان هذا الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري الذي فشل في احتواء العنف الجهادي في البلاد، ليفقد الجيش البوركينابي السيطرة على نحو 40% من أراضي الدولة، وخرجت التظاهرات الشعبية قبل ساعات من الانقلاب للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من بلادهم؛ ما أظهر أن الوجود الفرنسي لا يحظى بقبول البوركينابيين الذين تظاهر المئات منهم أمام السفارة الفرنسية في واغادوغو، وهو تقريباً نفس ما حدث في مالي المستعمرة الفرنسية السابقة أيضاً، إذ كانت مالي قد شهدت انقلاباً في أكتوبر/تشرين الأول 2020، أطاح خلاله العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة في 2022، لكن في شهر مايو/أيار 2021 قام الكولونيل آسيمي غويتا  الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، وتم احتجازهما في قاعدة عسكرية ليمسك بمقاليد الأمور في البلاد، كما أن القائد العسكري الجديد يعتبر فرنسا القوة الاستعمارية السابقة حليفاً للرجل الذي أطاح به.

وقد شكل الرأي العام المالي المساند للانقلاب والحكومة الجديدة والرافض للوجود العسكري الفرنسي سبباً لانقلاب مفاجئ في موازين القوى الداخلية في مالي لم يكن بحسبان باريس وحلفائها، ووضعها أمام تحدٍّ مباغت جعل أقل الخيارات خسارة بالنسبة لها هو الانسحاب العاجل من بلد فقدت فيه السيطرة على مفاصل الدولة بعد فقدان القدرة على حشد رأي عام موالٍ لها. 

 والانقلاب الفاشل في غينيا بيساو كان آخر حلقة في سلسلة الانقلابات التي تضرب منطقة إفريقيا الفرانكفونية.

 كل هذه مؤشرات من الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو، أبرزت ملامح تحول من الحضن الفرنسي إلى الحليف الروسي، فالدعم الروسي الضمني للانقلابيين في إفريقيا يمنحهم الحماية من العقوبات الأممية، كما يوفر لهم السلاح والذخيرة بشروط ميسرة، ناهيك عن إرسال مرتزقة فاغنر لدعم أنظمتهم الهشة، ما قد يغذي طموحات العسكريين في غرب إفريقيا للاستيلاء على السلطة مثلما حدث مؤخراً في غينيا بيساو.

كما أن الشعوب الإفريقية تفطنت إلى ازدواجية المعايير التي تستعملها فرنسا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها. ففرنسا التي تدين الانقلابيين في مالي وغينيا وبوركينا فاسو هي نفسها التي تبارك الانقلابيين في تشاد، وبالنسبة لهذه الطبقة العسكرية المشبعة بمشاعر القومية الرافضة للهيمنة الفرنسية، فإن حكومات بلدانها خاضعة لنفوذ باريس وتنازلت عن جزء من السيادة الوطنية لصالح المستعمر القديم.

هذا التنافس الروسي-الفرنسي على النفوذ في إفريقيا، ينعكس سلباً على الصراع بين العسكريين الأفارقة الذين لهم ميول قومية اشتراكية معادية لفرنسا، والسياسيين البراغماتيين الأكثر قرباً من باريس.

الاختراق الروسي للنفوذ الفرنسي

بدأ تعزيز روسيا لحضورها في إفريقيا منذ نحو عقد، بعد الأزمتين السورية والليبية وما مثلته من تهديد لروسيا بخسارة آخر مواطئ القدم على البحر المتوسط لصالح أعدائها التاريخيين الناتو وأوروبا، تربط روسيا بالعديد من بلدان القارة السمراء علاقات عسكرية أهمها صفقات التسليح مع الجزائر، مصر، الكاميرون، تنزانيا، نيجيريا، كما ربطتها بمصر اتفاقات بناء محطات لإنتاج الطاقة النووية.

ويبرز الصراع الروسي-الفرنسي في إفريقيا بقوة في ليبيا ووسط إفريقيا؛ حيث انحازت موسكو إلى خصوم باريس، كما أن دعمها القوي للانقلاب العسكري في مالي قد أضاف عامل تأزيم قوياً إلى الوجود الفرنسي في الساحل.

وما من شك في أن الوجود الروسي في إفريقيا بشكل عام مرشح لمزيد من التمدد، وأن قوات فاغنر ستتحول مع الزمن إلى عنصر مستقر وفعال في المشهد الأمني الإفريقي، حتى وإن أصرت فرنسا على اعتبارها عامل توتر وإثارة للنزاعات العرقية في القارة الملتهبة بحسب الرؤية الفرنسية.

وبعد الإطاحة بداميبا، سيتيح ذلك لروسيا التوغل أكثر في بوركينا فاسو، على غرار ما فعلت في مالي، من خلال إرسال مدربين وعناصر من فاغنر إليها، وتزويدها بأسلحة خفيفة وثقيلة، بما فيها الطيران الحربي، مقابل الاستفادة من حقوق استغلال مناجمها المعدنية، خاصة أنها خامس أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ناهيك عن الفوسفات والزنك.

وقد دفعت سياسة فرنسا لخفض عدد القوات الموجودة في منطقة الساحل اعتباراً من فبراير/شباط 2022 حكام مالي العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني، حيث كان من المرجح أن تحاول روسيا استغلال الفراغ الناجم عن خفض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، مما سيؤدي إلى تغيير بنية التحالفات مع الجماعات المسلحة وفيما بينها، هذا الوجود الذي سيعزز النفوذ الروسي في الساحل وفي إفريقيا بشكل عام، كما يربط الوجود العسكري الروسي في تشاد وليبيا بمنطقة الساحل، ويمد أيادي الروس أكثر إلى مناطق المعادن والثروات الهائلة في مالي والساحل بشكل عام في إفريقيا التي تدخلها روسيا من بوابات متعددة، أبرزها بوابتا الأمن والتجارة.

كما يبرز التنافس السياسي بين فرنسا وروسيا بقوة في مناطق التوتر، حيث تتهم باريس موسكو بالضلوع في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي أبوبكر كيتا سنة 2020، كما تدعم روسيا رئيس إفريقيا الوسطى فوستان توديرا في مواجهة معارضته المدعومة من فرنسا.

أما في المجال العسكري فتعمل قوة فاغنر الروسية في مناطق متعددة من القارة الإفريقية، وأصبحت حليفاً لعدد من الجيوش الإفريقية في مهام التدريب والتسليح، حيث وقعت أكثر من 30 اتفاقية عسكرية مع جيوش إفريقية مختلفة.

كما يعتبر الدور الروسي محورياً في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وإحداث توازن في علاقة فرنسا بالأنظمة في المنطقة، وتمثل دعوة الرئيس البوركينابي لروسيا من أجل الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب سعياً حثيثاً لتنويع شركاء الساحل.

 وتستحوذ روسيا على 40% من سوق التسليح في إفريقيا، وهو ما يزيد من التخوف الفرنسي من التمدد الروسي في مناطق نفوذ المستعمر القديم.

  لا يظهر في الأفق القريب تكامل للعلاقة بين روسيا وفرنسا في إفريقيا، بالرغم من التقاء المصالح الظرفية في ليبيا على سبيل المثال، ففرنسا تعتبر حضور مجموعة فاغنر الروسية سبباً أساسياً في التوتر وتشجيع النزاعات في إفريقيا.

إعادة التشكيل الجيوسياسي لإفريقيا

دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد 19، وتصاعد المد الإرهابي في المنطقة، عدداً من الدول الإفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية والتحوُّل إلى شركاء خارجيين قادرين على تزويدها باستجابات عملية لمشاكل عاجلة وملحة.

جسد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي برزت ملامحه في مالي، من جهة أخرى حدثت تصدعات في مناطق الفرانكفونية السابقة، وكذلك في منطقة الساحل التي تعاني من الانقسامات الداخلية والاختراقات الخارجية، بالإضافة إلى الأوضاع الأمنية الهشة.

تتلقى فرنسا في المدة الأخيرة ضربات متتالية في القارة الإفريقية، تمثلت في تصاعد النزعة الوطنية المطالبة بالتخلص من كل ما له علاقة بباريس، حيث أصبح الفرنسيون اليوم غير قادرين على مواجهة تطورات داخلية وخارجية جديدة بالقارة السمراء؛ ما أسهم في تراجع نفوذها بإفريقيا الذي يظهر خصوصاً في انهيار المنظومة الأمنية الفرنسية بالساحل، حيث أصبحت المنظومة الأمنية التي وضعتها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي سنة 2013 تتداعى بسرعة كبيرة، بعد انتقال المظاهرات المناوئة لتواجد فرنسا في المنطقة إلى تشاد، وانسحاب مالي من مجموعة الساحل، وإعلان رئيس النيجر موت هذا التحالف. فقرابة 10 سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل أثبت لشعوب المنطقة فشل باريس في جلب الاستقرار وتداول السلطة بالمنطقة، بعد أن تمددت الجماعات المُسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها قبل 2013.

  كل ما سبق ذكره من ترنُّح للنفوذ الفرنسي في إفريقيا، يبقى مرشحاً لمزيد من الإخفاقات بسبب استمرار باريس في تعاملها مع القارة السمراء بنظرة أمنية استعمارية خالية من أي بعد اقتصادي، على عكس كثير من الدول الأخرى التي رأت في التنمية والشراكة التجارية المنفذ لولوج إفريقيا المرشحة لأن تشهد في السنوات المقبلة أعلى معدلات النمو الاقتصادي عالمياً.

ما ساهم في اشتداد التنافس الدولي في إفريقيا خصوصاً مع دخول لاعبين جدد لا يملكون مشتركات كثيرة مع فرنسا، بل يعتبرون نفوذها عقبة أمام تمددهم في إفريقيا، وتزايد الإخفاقات الأمنية لفرنسا في إفريقيا وتمدد دائرة الإرهاب الذي يستنزف الجيش الفرنسي ويهدد حلفاءها التقليديين، بل يدفعهم إلى طلب العون من خارج الحضن الفرنسي.

لكن يبقى عمق الولاء الثقافي للنخب العسكرية والسياسية والمالية في إفريقيا لفرنسا عملاً مفسراً لامتداد النفوذ الفرنسي في قارة إفريقيا، فلا تزال باريس لدى كثير من الأفارقة نموذجاً يحتذى به حيث يمكن أن نجزم بأن أغلبية النخب المجتمعية في إفريقيا الفرنكفونية متأثرة ثقافياً بفرنسا، خصوصاً أن فرنسا هي جزء من خارطة الوعي والوجدان وتدبير المجتمع في إفريقيا، سواء عبر الأنظمة السياسية، النظم التعليمية، المسارات الثقافية والمؤسسات الخيرية، الكنائس والروافد والشركات القابضة.ما يحتم على فرنسا الالتزام بانتهاج سياسة جديدة تجاه إفريقيا، تعتمد شراكة تنسجم مع تطلعات الأفارقة وتركز على الوضع الاقتصادي وبيئة الأعمال في إفريقيا، والتدريب المهني وتمويل المنشآت، والقطاعات الأكثر حاجة للاستثمارات على غرار الزراعة والصحة والتنقل الحضري والمياه والنفايات والحصول على الطاقة والاتصالات والتكنولوجيا والبنى التحتية والمجال اللوجستي، والسياحة والفندقة، والموارد والصناعات الاستخراجية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حليم بوعمري
كاتب وباحث متخصص في العلاقات الدولية
حاصل على شهادة الليسانس في العلوم السياسة و العلاقات الدولية من جامعة منتوري قسنطينة وباحث في العلاقات الدولية.
تحميل المزيد