في كرة القدم الاكتئاب غير مقبول، لكننا لسنا أبطالاً خارقين.
هكذا عبر بول بوغبا عن علاقته بالاكتئاب أثناء فترته مع مانشستر يونايتد تحت قيادة المدرب جوزيه مورينيو.
لكن، كيف للاعبي كرة القدم، المليونيرات، أن يصابوا بالاكتئاب، الذي يعتبره عامة الناس توأم الفقر، يجيب بوغبا عن هذا التساؤل البريء بإجابة أكثر براءة، فيقول: "بالفعل نحن نحصل على أموال كثيرة، لكن هذا لا يمنعك من المرور بهذه اللحظات في حياتك".
في عام 2015، أجرت نقابة "اللاعبين المحترفين" بحثاً حول الصحة النفسية للاعبي كرة القدم، شمل البحث 826 لاعب كرة قدم، من 5 دول، وكانت النتيجة أنه من بين كل 3 لاعبين يوجد لاعب يعاني من الاكتئاب أو القلق.
كما ذكرت مجلة "Four Four Two" الإنجليزية في تقرير لها حول الحالة النفسية للاعبين المحترفين في إنجلترا واسكلتندا، أن 78% من اللاعبين المحترفين في إنجلترا واسكتلندا قد مروا بفترات اكتئاب ليس سببها فقط النتائج السلبية أو الهجوم من وسائل الإعلام، إنما بسبب العنصرية أيضاً.
في إنجلترا، كان أحد أبرز النماذج التي أفصحت عن إصابتها بالاكتئاب لاعب مانشستر يونايتد السابق مايكل كاريك والذي كان أحد أعمدة اليونايتد في واحدة من فتراته الذهبية من عام 2007 وحتى نهاية 2009.
ذلك الجيل الذي ضم رونالدو وواين روني وريان غيغز وبول سكولز بقيادة المدرب الأسطوري والأبرز في تاريخ كرة القدم أليكس فيرغسون، واستطاعوا تحقيق لقب دوري أبطال أوروبا في موسم 2007_2008 ووضعوا آمالاً في تحقيقها للعام الثاني على التوالي قبل الاصطدام ببرشلونة في النهائي، برشلونة الذي كان يعيش أفضل أيامه بجيلٍ يعتبره البعض أفضل فريق في تاريخ كرة القدم.
ذلك النهائي انتهى بخسارة اليونايتد اللقب، وصف كاريك الخسارة بأنها "واحدة من أسوأ اللحظات في حياتي".
كاريك بدأ في لوم نفسه واعتبر نفسه السبب في هدف بيدرو الأول في المباراة وأصابه الشك في مستواه وخسر ثقته في نفسه، دخل بعدها- كما وصف- في نوبات بكاء متتالية، واعترف أنه قد فكر في الاعتزال لعدة مرات.
تبع ذلك تقديمه أداء سيئاً للغاية وضعه في محل شك أمام فيرغسون الذي نالته سهام الانتقادات لاعتماده المستمر على كاريك في منتصف الملعب.
خضع كاريك للعلاج النفسي بعدها، بطلب من السير فيرغسون، الذي لاحظ تدهور حالة اللاعب وغياب الابتسامة عن وجهه لعامين.
حاول بعدها المدرب وضع اللاعب تحت العلاج النفسي بعد وصوله لحالة فقد فيها القدرة على الضحك أو الابتسام لمدة عامين.
رغم تعافيه على المستوى النفسي بشكلٍ كبير إلا أن الأوان قد فات داخل الملعب، وقضم الاكتئاب سنوات عمره الكروي الأخيرة.
دي ماريا "الزومبي"
يعتاد المدربون على تحفيز اللاعبين خصوصاً قبل المباريات النهائية، وذلك لإخراج أكبر قدر من المجهود ورفع مستويات اللاعبين في مثل تلك المباريات الهامة، لكن في كرة القدم لا بد من فائزٍ واحدٍ في النهاية، وبالتالي لا بد من وجود ثلاثة وعشرين لاعباً في قائمة الخصم سيعانون من مرارة الهزيمة.
في نهائي كأس العالم 2014، بين ألمانيا والأرجنتين، كان الأمر بمثابة الحلم للفريقين، فكلاهما لم يعانق الذهب لأعوامٍ طويلة، وبعد هدف ماريو غوتزه الذي كان بمثابة الصدمة انتهت أحلام الأرجنتين في كأس العالم وصعقت كل المدن التي كانت تمني النفس وتتجهز للاحتفال.
نامت بوينس آيرس باكية في ذلك اليوم، كذلك روساريو التي شارك العديد من أبنائها في المنتخب الأرجنتيني، ولكن من عانى كثيراً بعد ذلك اليوم كان أنخيل دي ماريا ابن المدينة البار والذي ولد وترعرع فيها.
بعد ذلك النهائي مر دي ماريا بفترة صعبة لجأ فيها لطبيبٍ نفسي، وعبر دي ماريا أن الخسارة فقط لم تكن السبب في دخوله في حالة الاكتئاب ولكن بعد ما تعرض له من سخرية أو "ميمز" عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ضرب الاكتئاب دي ماريا مرة أخرى في عام 2020 وأثناء توقف كرة القدم بسبب وباء كورونا، وبسبب عدم خروجه من المنزل ومكوثه داخل الحجر الصحي لفترة طويلة أصيب بالأرق والقلق والاكتئاب الحاد، حيث وصفت زوجته للمقربين أنه بات يتصرف مثل "الزومبي" مما أثار قلق عائلته.
اكتئاب الماضي أكثر ظلاماً
في تصريحات حديثة في فيلم وثائقي تحدث "الظاهرة" رونالدو البرازيلي عن الاكتئاب وصرح بشكل مفاجئ أنه مداومٌ على العلاج بعد صراع مع الاكتئاب لمدة عامين ونصف العام، وتحدث أنه أصبح يفهم نفسه بشكلٍ أفضل بكثير من الماضي.
تحدث الظاهرة عن نقطة مهمة في الأجيال الماضية من كرة القدم وأنهم تعرضوا لما وصفه "بالإجهاد العقلي" دون إعدادٍ لذلك، وأن اللاعبين كان يدفع بهم للملعب ويتم الضغط عليهم لتقديم أفضل ما لديهم دون الاهتمام بأي شئيء آخر.
يقول: "فلم يكن هنالك دورٌ للطبيب النفسي داخل كرة القدم مثل الآن، ولقد عرفنا أن كرة القدم تسبب الكثير من التوتر والذي قد يؤثر علينا في بقية حياتنا حتى بعد الاعتزال".
في لقاء للطبيب محمد إبراهيم عضو "الجمعية المصرية لعلم النفس الرياضي"، أثبتت الدراسات أنه لتحقيق إنجاز فإن المهارة والعامل البدني لهما دور بنسبة 60% لكن العامل النفسي يشكل 40% في تحقيق الفوز.
ما يشير إليه رونالدو هو ما يسمى "متلازمة الاحتراق النفسي" والذي يصيب الأشخاص بعد التوقف عن ممارسة الرياضة، وهو ما أصبح رائجاً بين لاعبي كرة القدم المعتزلين؛ ففي تقرير نقابة "لاعبي كرة القدم المحترفين" وصلت نسبة الاكتئاب بين اللاعبين المعتزلين إلى 35%. وتعتبر تلك النسبة مرتفعة وتدق ناقوس الخطر، إذ إن متوسط نسبة الاكتئاب داخل المجتمعات الطبيعية يتراوح بين 13% و17%.
ناقش ذلك الأمر طبيب نادي برشلونة ريكارد برونا، حيث تحدث أن إصابة اللاعبين بالاكتئاب لها أسباب قد تكون عضوية وأخرى نفسية وهي الأكثر تواجداً.
وعن سبب دخول لاعبي الكرة في مثل تلك الحالات بنسبة أكثر من الطبيعي تحدث الطبيب أن هؤلاء اللاعبين يتعرضون طوال حياتهم لضغطٍ شديد للغاية، ويُنتظر منهم أكثر بكثيرٍ وأصعب من الإنسان العادي.
وفي البرازيل، من منا لا يذكر المهاجم أدريانو الذي تألق مع إنتر ميلان بشكل خرافي، ولكن كانت شهادة وفاة والده بمثابة شهادة وفاة لمسيرته الكروية أيضاً؛ حيث دخل في اكتئاب بين 2005 و2009، وأدمن الكحوليات ولربما المخدرات.
ذلك الضغط سنراه في التدريبات وفي المباريات وحتى في التعامل مع العامة ومع الإعلام، ولا يعد ذلك محدوداً بل أمر له تأثير كبير للغاية، حيث إنه من الممكن أن يتسبب في إصابة عضلية للاعب؛ نظراً لأن اللاعب المكتئب يتحرك بشكل أبطأ وبتركيزٍ أقل.
بويان كريكتش أو "ميسي الجديد"
يبدو أن الملايين والسيارات والمنازل الفاخرة والعقود الضخمة لا تحمي من الاكتئاب، فما يتعرض له لاعب كرة القدم محترف في الدوريات الكبرى من ضغوط يفوق ضغوط الحياة اليومية.
لذلك قد يسقط اللاعب وتنتهي مسيرته مبكراً بسبب عدم قدرته على التأقلم مع الضغط، كما حدث مع بويان كركيتش أو "ميسي الجديد" كما لقبه الإعلام الكتالوني.
بعد تألقه في سن صغيرة مع نادي برشلونة وتصعيده للفريق الأول وتقديمه لمستويات جيدة في عدة مباريات، لقب بويان كريكتش بـ"ميسي الجديد" وعقدت عليه آمال تفوق مقدرته، وارتفع سقف التوقعات حتى انهار فوق رأسه. إذ غادر بويان برشلونة وظل يتنقل بين الأندية دون أي نجاح يذكر.
وفي البرازيل، من منا لا يذكر المهاجم أدريانو الذي تألق مع إنتر ميلان بشكل خرافي، ولكن كانت شهادة وفاة والده بمثابة شهادة وفاة لمسيرته الكروية أيضاً؛ حيث دخل في اكتئاب بين 2005 و2009، وأدمن الكحوليات ولربما المخدرات.
توّحش الضغط
كرة القدم أصبحت مصدر الدوبامين الوحيد لكثير من سكان المعمورة، والمهرب الوحيد من ضغوط الحياة. لكن، في الجهة الأخرى، توحّش الضغط الذي يمارس على اللاعبين في سبيل تحقيق الإنجازات، في عالمٍ يؤمن باستعباد البشر في سبيل الإنتاجية وأصبحنا نتغافل حقيقة أن هؤلاء اللاعبين بشرٌ لهم عائلات، يتأثرون بما نكتب ويتألمون من السخرية، وتؤلمهم حقيقة اعتبارهم مثل الآلات، لا فائدة لهم إلا تحقيق المكسب، فإن فشلوا استحقوا الفتك والهتك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.