لا أزال أذكر اليوم الذي لمحت فيه هذا الكتاب، الذي أصبح اليوم بالنسبة لي أكثر من مجرد كتاب. كانت حرارة الجو خلال فصل الصيف في مدينة الرباط قد بلغت ذروتها، وولجت إحدى مكتبات المدينة لأحتمي من أشعة الشمس الحارقة، في انتظار إحدى صديقاتي.
وبينما كنت أتجول بمقلتي بين كتاب وآخر، وقع نظري فجأة على رواية الكاتب السعودي "عبد الرحمن منيف"، وقد تعرفت على هذا الاسم المألوف الذي خلَّف صاحبه إرثاً عظيماً من الأعمال الروائية التي تعد إلى يومنا هذا بمثابة محطات ممهدة لنهضة فكرية عربية، وقد ترجمت رواياته إلى عدة لغات بفضل طابعها الحداثي والثوري. وعلى الرغم من أنني لم أكن أنوي اقتناء مزيد من الكتب بحكم اقتراب موعد سفري، قررت أن أتخذ من هذا الكتاب رفيقاً لي في السفر والغربة؛ ولقد كان ذلك أكثر قراراتي صواباً.
"الأشجار واغتيال مرزوق"
يقص علينا عبد الرحمن منيف في روايته "الأشجار واغتيال مرزوق" تجربة إنسانية مشبَّعة بالألم من خلال شخصية، أو بالأحرى شخصيتين، مميزتين من نواحٍ عديدة. يستهل الكاتب روايته بالتعريف عن منصور، بطل الرواية الذي عاش محاطاً بسور بُنِي من خوف ورقابة.
كان منصور مُقبلاً على الهجرة بعد أن تجرع مرارة الفراغ والبطالة، ثم أصبح مترجماً، ثم أستاذاً في التاريخ المعاصر قبل أن تسنح له فرصة العيش بعيداً عن الوطن الحسيب الرقيب ليعمل في مجال الآثار. لم يكن يهمه العمل بقدر ما يهمه أن يحصل على تذكرة سفر دون عودة.
التقى منصور عبد السلام وهو على متن رحلة في القطار بمُهرِّب يدعى إلياس نخلة، وسرعان ما تحول هذا الغريب الذي يتسم بشيء من الغموض وغرابة الأطوار، إلى بطل معادٍ وشخص جعلت منه تجاربه القاسية يكاد يبلغ مقام العالم أو الفيلسوف.
تحدث الرجلان- وهما يرتشفان مشروب العرق طوال الرحلة- عن الحياة وقسوتها، عن حب إلياس للأشجار الذي سرعان ما تحول إلى هوس، عن خسارته وندمه بعد أن ضاعت منه كل الأشجار التي أفنى عمره في زراعتها وقامر عليها في آخر المطاف، عن هجر إلياس للطيبة في بحثه المضني عن شيء من الحرية وعن عجز هذا الأخير عن الاستقرار في حرفة واحدة.
تحدثا أيضاً عن النساء والحب، عن حنة التي عشقها إلياس كما لو كانت تجسيداً لأشجار الطيبة كلها. بعد أن ماتت حنة، أصبح إلياس غريباً في هذا العالم. تلقفته بعدها أحضان كثيرة لنساء عديدات، ولكن دفء حضن حنة لم يكن يضاهيه دفء. كان منصور عبد السلام يومها يصغي إلى إلياس بكل انتباه ويمطره بوابل من الأسئلة، ولكنه لم يجد في دواخله قدرة على البوح بتفاصيل حياته. وعلى الرغم من أن إلياس لم يكن سوى شخصية عابرة في قصة منصور، فإنه ترك أثراً جلياً في نفس هذا الأخير.
يذكِّرنا الكاتب في منتصف الرواية بأن منصور عبد السلام راوٍ غير موثوق، وأن بعض مزاعمه قد تكون من نسج خياله الواسع، بسبب جنون الشك والارتياب الذي أصابه منذ أن أصبح مراقَباً من طرف النظام بسبب نشاطه السياسي. يحدثنا منصور عن الطفل المعنَّف الذي كانه، وعن هزائمه الفادحة والعديدة في معارك الحب.
يبوح لنا بمخاوفه العديدة ويعبّر عن يأسه من المحاولات المتكررة والفرص الضائعة، في ظل جهل تام بما يخبئه المستقبل. يحيلنا التعمق في شخص منصور عبد السلام إلى نقاش شبه عقيم عن الوعي والحرية وما يرافقهما من مسؤولية تؤرق الإنسان وتزرع في نفسه حيرة وألماً مزمنَين.
يعيش منصور أزمةً سببها كل الاحتمالات التي تسيطر على تفكيره، غادر وطنه وهو لا يحمل في حقيبة سفره سوى بضعة كتب وكثيراً من الأمل في بدايات جديدة، ولكن فكره ظل معلقاً في أروقة الذاكرة، ولم يحصد من غربته سوى مزيد من الألم. ينظر إلى الماضي البعيد/القريب ويتذكر ساعات التعذيب والتنكيل التي مر بها، يزن كل هذا الألم الذي تجرعه وهو في كنف وطنه ويقارنه بالعيش تحت وطأة الغربة والبعد، ولا يكاد يميز بين النارين.
كان الدركيُّون يملكون خبرة وافرة في اصطياد الخوف والتردد الذي يعتري كل من يسافر إلى الضفة الأخرى ومن يغادرون الوطن مهربين أفكاراً وقناعات غير مشروعة، هؤلاء بمثابة قنبلة موقوتة ومشاريع خونة وعملاء ينبغي اجتثاتهم من التربة الخصبة للجالية.
كان منصور عبد السلام واحداً منهم، كانت قناعته وتوجهاته السياسية المناهضة لثيوقراطية خانقة للحرية ونظام ديكتاتوري فاسد مصدر قلق للرؤس الكبار في بلاده. إذا كان الوطن يعني الدفء والأمان، فإن منصور لم يكن له وطن يوماً، فهو لم يذُق سوى مرارة العيش في السجن الكبير الذي يسمى بالوطن.
وعاد منصور عبد السلام إلى جحر الذئب، ساقه إلى السجن الاختياري الذي كانه الوطن، خليط متجانس من الحنين والنفور، بل هي إرادة خفية تتحكم في حياته وتقرر مساره، ولحظة جسارة فجائية باغتت رجلاً اختار لنفسه منفى بعيداً عن سجنه الكبير. ساقته هذه الإرادة ليستقل قطار الموت من جديد ويعود إلى بلاد الممالك الصغيرة وسطوة القوة التي تتغلب كل يوم على القيم الإنسانية في مشهد سيريالي يوحي بضياع لب الإنسان وانهزامه في المعركة الأخلاقية التي يخوضها كل يوم دفاعاً عن فطرته وكونيَّة قِيمه.
أثر عبد الرحمن منيف
لقد نجح عبد الرحمن منيف في إقناعي شخصياً بأن الحياة بطولة، ذلك الصمود الذي يتحلى به الإنسان أمام المأساة اللصيقة بالتجربة الإنسانية، هو بحد ذاته بطولة.
أن يتمسك الإنسان بحبل الحياة حتى بعد فقدانه الرغبة في استكمال رحلة العيش أمر يستحق الثناء. ولكن رغم هذا فإن الدوافع التي تخلق من تجربتنا الإنسانية العادية بطولات صغيرة يومية لا تزال غامضة، لا أحد يملك جواباً قاطعاً عن أسئلتنا الوجودية ولكن الروائي الثوري والمفكر العربي الفذ عبد الرحمن منيف وكل من حذوا حذوه يذكِّروننا كل يوم بأن نستكمل رحلة البحث عن أسئلتنا هذه، وأن لا نرضى بمعرفة سطحية بأسرار الكون والنفس البشرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.