في تقرير صادم للبنك الدولي صدر في 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ذكر أن الحرب الروسية على أوكرانيا غيرت الأنماط العالمية لكل من التجارة والإنتاج والاستهلاك، خاصةً استهلاك السلع الأولية مثل القمح والأرز والذرة وزيت المائدة، على نحو من شأنه أن يُبقي الأسعار عند مستويات مرتفعة حتى نهاية 2024.
وهو ما سيفاقم انعدام الأمن الغذائي ومستويات تضخم أسعار الغذاء المحلية التي باتت تعاني منها كل بلدان العالم منخفضة ومتوسطة الدخل، وكذلك مرتفعة الدخل، وإذا قلنا منخفضة الدخل فهي تضم معظم بلداننا العربية، أما متوسطة الدخل فهي تنقسم إلى شريحتين حسب البنك الدولي، شريحة دنيا من البلدان متوسطة الدخل، وشريحة عليا من البلدان متوسطة الدخل، وهاتان الشريحتان ستضمان بالتأكيد
الباقي من بلداننا العربية والتي نعتبرها نحن غنية كبلدان الخليج مثلاً، أي إن كل بلداننا العربية من المحيط إلى الخليج ستعاني من انعدام للأمن الغذائي بطريقة أو بأخرى والتضخم الكبير حتى نهاية 2024 على أقل تقدير. هذا لو اعتبرنا أنه لن يكون هناك أثر مستمر لأزمة الحرب لسنوات قادمة بعد أن تنتهي، إن انتهت قبل 2024.
تفاصيل مملة ومرعبة
كان لا بد من هذه المقدمة السوداوية المختزلة؛ كي ندخل وإياكم إلى تفاصيل لا تقل أهمية، ولا تقل سوداوية كذلك، فحسب التقرير أيضاً فإنَّ تضخم أسعار الغذاء المحلية في مختلف أنحاء العالم ما زال يتفاقم، وإن هذه المستويات بلغت في البلدان منخفضة الدخل 88%، وفي الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل بلغت 91%، وفي الشريحة العليا بلغت 93%. أما في البلدان مرتفعة الدخل كأمريكا وأوروبا الغربية، فقد بلغت المستويات 82%، طبعاً نُذكِّركم بأن هذه النسب تخص تضخم الأسعار المحلية للغذاء.
ويعزو البنك الدولي مشاكل التضخم هذه إلى أمرين اثنين يتعلقان بالحرب الأوكرانية: الأول هو زيادة أسعار الطاقة، والثاني هو تلك السياسات العامة والقيود المفروضة على التصدير والتي تحد من توافر كل من الأسمدة والغذاء على المستوى العالمي، وهذا ما سيفاقم مشكلة ارتفاع أسعار الغذاء التي ستتسبب في أزمة عالمية تتمثل بزيادة أفواج الفقراء المدقعين، وسيفاقم من مسألة الجوع وسوء التغذية، وسيرفع من أعداد البشر الذين سيعانون من انعدام لأمنهم الغذائي إلى 222 مليون إنسان إضافي في 53 بلداً حول العالم، من ضمنها طبعاً كل بلداننا العربية بلا استثناء، هذا أيضاً حسب تقرير صدر مؤخراً عن منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي.
هذا علاوة على مشكلة التغير المناخي أو الاحتباس الحراري التي تؤثر أصلاً بشكل سلبي على إنتاج الغذاء؛ ومن ثم أسعاره منذ سنوات طويلة قبل الحرب، ولكنها الآن باتت أكثر حدة. من المؤكد- عزيزي القارئ- أنك لاحظت في الفترة الأخيرة موجات الحر الشديد والجفاف التي باتت تضرب أوروبا وكثيراً من بلدان العالم ومن ضمنها بلادنا العربية، لاسيما بلاد الشام وشمال إفريقيا، وأن موجات الحر الشديد والجفاف هذه- حسب علماء المناخ- ستستمر حتى نهاية 2023 على أقل تحديد، أي إنه ما زال أمامنا وأمام أوروبا بالتحديد وباقي العالم صيفان حاران جداً، وشتاءان جافان جداً. وأنت تعلم أن سلع القمح والشعير والذرة والأرز تأتينا في معظمها من أوكرانيا وروسيا اللتين تقعان في أوروبا، ثم الهند وأمريكا والبرازيل التي تعاني هي أيضاً تأثيرات التغير المناخي الكارثية نفسها، وهذا ما سيفاقم أسعار الغذاء أكثر فأكثر، وسيفاقم كذلك مشكلة استمرار توافرها في أسواقنا طبقاً لسياسات تلك البلدان التي دأبت تحمي أسواقها المحلية، بينما ما زالت معظم أنظمتنا العربية وحكوماتها لا تعدو كونها أنظمة وحكومات أمنية بوليسية لا أكثر، وهي ما زالت عاجزة عن فعل أي شيء يُذكر تجاه مثل هذه القضايا المهمة والخطيرة والمُلحة، فبينما تضيِّق على من تسميهم بالسياسيين والحراكيين والمعارضين لتحمي نفسها، ربما تأتيها الضربة بمقتل من الجياع هذه المرَّة، وما إن تستفق حتى يكون الأوان قد فات.
الحلول والتوصيات والعِظات
على كل حال ما زال أمامنا مُتَّسع من الوقت كي نتعلم ونأخذ العبر، رغم أنني أشعر بأننا ربما نتعلم لكن للأسف الشديد في الوقت الضائع، فقد عرَّت حرب أوكرانيا العالم أكثر مما عرته جائحة كورونا في الأمس القريب، وظهرت الأنانية الدولية من خلال تصاعد حدة السياسات العامة والقيود المتصلة بالتجارة وتصدير المواد الغذائية والأسمدة والتي باتت تفرضها تلك البلدان التي تطعم معظم شعوب الكوكب، لتحمي بذلك إمداداتها المحلية أولاً وآخراً وقبل كل شيء؛ ومن ثم تخفض معدلات تضخم أسعار الغذاء في أسواقها، الأمر الذي بات يفاقم أزمة الغذاء العالمية أكثر فأكثر، بينما أنظمتنا كالأطرش في الزفة، فمنها ما هو مشغول ببناء الكباري والمدن وشراء الطائرات واللوحات والمقاتلات والكلاشينكوفات والبواريد وبناء مدن الملاهي، ومنها ما هو مشغول بصناعة معارضين وشيطنتهم وتعليق كل الفشل الحاصل عليهم، ومنها ما هو مشغول بحرية وحقوق الطفل والمرأة والصيف والشتاء وشروق وغروب الشمس، ومنها ما هو مشغول بالكيفية المثلى لإرضاء اليهود والصهاينة والقرود الزرق وكل ما هو بشع وسيئ وشرير في هذا العالم مع أنه لا أحد يعلم لماذا وما الفائدة؟
لكن بالفعل ما يجبُ علينا أن نفعله لمواجهة الجوع المحدق بنا مع حالنا المتردية والمخزية تلك، ومع حالنا التي تشبه أحد عوالم أليس في بلاد العجائب؟ في الحقيقة لا يوجد الكثير لنفعله؛ هي فقط أمور بسيطة للغاية لا تتعدى إجراء بضعة إصلاحات إدارية قد تستمر لعشرات السنين، وبضعة إصلاحات سياسية قد تستمر أيضاً لعشرات السنين الإضافية، يعني بالتتابع، يعني عشرات فوقها عشرات، وبعض التعديل والإصلاح للأنظمة الحالية التي قد تستغرق أيضاً عشرات السنين مع خسارة عدة ملايين من البشر بين قتيل وجريح ومعطوب ومعتقل في سبيل ذلك، يعني مع ذلك يبقى الأمر غاية في البساطة. لكن حسب رأيي المتواضع جداً فالأسهل من هذا كله هو إعداد علماء وباحثين ليخترعوا لنا طرقاً وأساليب جديدة لطهي الحجارة والرمال الوفيرة في بلادنا ذات الصحاري الخلابة الشاسعة واستخراج الغذاء منها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.