لم ينعكس إنجاز اتفاق ترسيم الحدود حتى الآن على لبنان من نافذة التسويات والتهدئة السياسية، ولم يتلاقَ هذا المسار مع مسارات دستورية ولا رئاسية ولا حكومية في البلاد، لا بل إن الانقسام لا يزال متصاعداً، وخصوصاً أن الأطراف التي لم تشارك في وضع لمساتها في الترسيم، ولم تستفد سياسياً منه تعتبر نفسها غير معنية بالتعاطي معه كملف يبنى عليه للخروج من الأزمة، فيما حزب الله والتيار العوني يعتبران نفسيهما الطرف المستفيد الأول منه، ويسعيان "لتقرشيه" سياسياً وإقليمياً.
وعليه يسعى جبران باسيل للتحرك وفق هذه المعادلة الصلبة عبر التحضير لمنصة سياسية تناقش الذهاب لشخصية وطنية لرئاسة الجمهورية، ربطاً بمبادرة يطلقها ويدور بها على الأطراف بمن فيها التغييرين وباقي الكتل المنافسة والمناوئة، وعليه فإن باسيل صاحب مبادرة التوافق هو نفسه من قال "لا تدعونا نغير رأينا"، ما يعني أنه جاهز لتسويق نفسه للرئاسة إذا ما شعر أن الظروف الخارجية جاهزة للتبلور لمصلحته، خاصة أنه يعمل على فتح أبواب حوار مع واشنطن عبر القول إنه قدم الترسيم مقابل رفع العقوبات مستقبلاً.
بالتوازي يجري نقاش جدي حول إذا ما كانت السعودية جادة في مبادرتها لصون وحماية "اتفاق الطائف" بعد دورها في إفشال المسعى الحواري السويسري والدفع باتجاه القول أنها حاضرة وتمتلك هذه المرة الثلث المعطل في الاستحقاقات الدستورية القادمة، ما يعني أن تسوية متعلقة بلبنان من الرئاسة إلى الحكومة إلى طبيعة الأحجام والأوزان السياسية لن تطال "جوهر الطائف"، وهذا ما تسعى الرياض لقوله انطلاقاً من رفعها لواء الحفاظ عليه لا بل أنها تجر معها دولاً أخرى لهذا المسار وتحديداً باريس وواشنطن، وهذا المسار تجلى بالموقف الثلاثي الصادر عن وزراء خارجية الدول الثلاثة في واشنطن على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
لا بل إن الرياض سعت لإحراج باريس في ملف الطائف مراراً، استشعاراً من أي دور قد تلعبه باريس في ظل انفتاحها المستمر على إيران وحزب الله وبعد ما حكي عن عقد اجتماعي جديد قد ترعاه باريس، وهذا الأمر تخشاه الرياض؛ لأنه سيكرس حزب الله قوة سياسية مشرعة بالدستور، ما يعني قطع الطريق على القيادة السعودية لتحصيل أي مكسب في اليمن عبر المناورة الجارية في لبنان.
في هذا الإطار تحيلك كل التطورات والمناقشات الجارية إلى مكان واحد، وهو أن لا خطة استراتيجية سعودية للبنان، فالأولوية لدى الرياض هي للجرح النازف في اليمن، وما قد يحدث في حال عادت الأمور لنقطة الصفر في التهدئة الحاصلة، والتي تحاول دولة قطر منع سقوطها، لذا فإن التحرك السعودي المفاجئ يندرج في هذا المسار وفق معادلة تعطيل خيارات حزب الله في لبنان، خاصة أن الأمور قابلة للتأزم في اليمن بعد حدث المونديال المنتظر في قطر، وهذا يتزامن مع أزمة مفتوحة مع واشنطن بعد قرار "أوبك +" بخفض الإنتاج النفطي وما سينعكس على الميدان اليمني مع تحديات السعودية في الاستحصال على السلاح الأميركي.
وهذا التطور المفتوح على الأحداث ستواجهه الرياض بترسانة صاروخية ومسيرات مستحدثة سيعيد تعزيز واقع الحوثي إذا ما بقيت الأزمة مع إدارة بايدن، بالمقابل فإن الوسيط العراقي أي مصطفى الكاظمي جرى استبداله، وهو الذي كان يحمل على عاتقه ملف الحوار بين الرياض وطهران وانتظار رعاية جديدة لهذا الحوار وما قد ينتج عنه، ما يعني أن المساحة المتبقية هي المساحة اللبنانية والتي ستعمل الرياض على استجماع كل أوراقها فيها بالوصول لستين صوتاً يزيدون وينقصون وفق الحاجة لتكريس واقع جديد يكون قوامه القوات والاشتراكي والكتائب وبعض التغييرين والمستقلين السنّة والمسيحيين، والتحدي السعودي الرئيسي يكمن في المشهد السنّي، وهي أبلغت كل الأطراف أنها ستستعيد دورها في هذا الملف دون توكيله لأي طرف سياسي أو إقليمي بجرعات دعم لدار الفتوى ومستقبلاً لمرشحها المنتظر لرئاسة الحكومة.
فيما لا اسم لرئاسة الجمهورية بشكل رسمي من قبل السعودية، على الرغم من الهمس حيال دورها في اقتراح اسم ميشال معوض، لكنه في الإطار العلني لا اسم رسمياً لها على الرغم من محاولة باريس جرها لخيار التسمية أو تفويضها في الاختيار، هذا الإقبال الفرنسي على الأسماء والسير الذاتية أثار ريبة الرياض وأبلغت كل من يعنيهم الأمر أنها غير موافقة على الذهاب باختيار اسم ما دامت غير ضامنة لفوزه أو وصوله، وأن أي حوار حول الرئيس يجب أن يكون معها حصراً دون قنوات أخرى.
ولا شك في أنّ التطورات الكبيرة الحاصلة في المنطقة والعالم جعلت لبنان مؤخراً في صلب أي تسوية إقليمية، وهي فرصة قد لا تتكرر بدءاً من الترسيم البحري وليس انتهاءً بالتنقيب والاستخراج، وعلى الرغم من الواقعية السعودية بعدم التعويل على أي ثروة نفطية في لبنان حتى اللحظة، إلا أنها تريد ربط أي مسعى إقليمي بالحوار معها بكونها الأقدر على انتشال لبنان من كبوته وانهياره، وهي تربط تفعيل الاتفاقيات العشرين مع لبنان برئيس جمهورية وحكومة خارج مدار تأثير إيران بشكل مباشر، لكنها حاضرة لفهم مدى واقعية الأطراف بكون حزب الله طرفاً جاهزاً لعقد صفقة أو خفض التصعيد.
لكن المشكلة المستجدة تتعلق بتدهور العلاقات الاميركية ـ السعودية، والرياض اليوم تقول إن واشنطن وجهت لها 5 ضربات، الأولى رفع الإنتاج النفطي الإيراني من 400 ألف برميل إلى 800 ألف برميل وإعادة تحريك الملف النووي دون الالتفات إلى هواجسها وإتمام صفقة العراق الرئاسية والحكومية دون التشاور معها جدياً إضافة لملفي ترسيم الحدود مع لبنان، والتي تنطوي على صفقة إيرانية-أميركية، كذلك تركها وحيدة تواجه قدرها في اليمن، وهذا ما جعلها تكثف حضورها لبنانياً وتعيد ترتيب علاقاتها مع الأطراف الفاعلة وتحديداً تركيا وقطر عبر تعزيز صفقات عسكرية وتطوير تفاهمات اقتصادية.
فيما تراقب الرياض عبر طاقمها الدبلوماسي عن كثب الضغوط التي يمارسها حزب الله لتشكيل الحكومة، تفادياً لصراع دستوري حول تولي حكومة تصريف الأعمال لصلاحيات رئيس الجمهورية، وهي تتابع بدقة واقعية الحزب وهي مرتبطة بالإطار الأكبر المرتبط بتسارع تحولات المنطقة، والتي تبدت أخيراً بمصالحة حركة حماس لبشار الأسد، وهذه المصالحة ما كانت لتتم لولا موافقة تركية وغض نظر قطري وانتباه سعودي لهذا الشأن.
خلطة غامضة وللحديث تتمة..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.