يعتبر الكثيرون أن أشهر ساعة عرفتها البشرية هي ساعة "بيج بن" البريطانية الشهيرة، التي تستوي واقفة في قلب لندن منذ عام 1859م. الساعة البريطانية برغم عَظَمتها المعمارية لم تبهرني يوماً.
فكقارئ جيد في التاريخ أعرف أن العالم تمكّن من اختراع عشرات الساعات العملاقة التي كانت مثار انبهار متابعيها، أغلبها لم ينل فُرصته في البقاء لظروفٍ شتى، وهذا ما أعطى للساعة البريطانية الأفضلية.
من ضمن تلك الساعات العملاقة ذات القيمة التاريخية، أكثر من واحدة ابتكرها مهندسون مسلمون خلال دولة الخلافة الإسلامية. الساعة الإسلامية الأكثر شهرة هي "الساعة الدقّاقة" التي أهداها الخليفة العباسي هارون الرشيد لحليفه شارلمان ملك فرنسا، وأثارت بِدقّتها الميكانيكية ذهول البلاط الأوروبي.
لكن هناك ساعة أخرى تفوقها أهمية بكثير، لكنها -للأسف- لم تحظ بذات الشهرة في كُتب التاريخ. تلك الساعة الكبيرة التي نُصبت على باب المسجد الأموي وكانت علامة بارزة في عُمران دمشق على مدار عشرات السنين.
أعتقد أن "الساعة الأموية" لم تحظَ بشهرة مدوية كمثل التي حظيت بها "الساعة العباسية"، لأنها لم ترتبط بِاسم خليفة كما حدث مع "الآلة الدقّاقة" التي ارتبطت بِاسم هارون الرشيد، الخليفة الأشهر عند الأوروبيين. كذلك فإنها تعرضت للتخريب عدة مرات، فغاب ذِكرها عن كُتب التاريخ إلا من شذرات متناثرة لولاها لضاعت سيرة "ساعة المسجد الأموي" إلى الأبد.
تلك السيرة التي قرّرتُ أن أعيد تجميعها وترتيبها لأقصّها عليكم مُجدداً.
حكاية العرب مع الساعات المائية
حسبما أورد دكتور غفران الناشف في أطروحته "ساعات المسجد الأموي: براءة اختراع عربية إسلامية"، فإن العرب أخذوا علم الساعات عن اليونانيين، ثم مزجوا تلك المعارف بخبراتهم الميكانيكية لزيادة دقة الساعة، وهو مكّنهم من اختراع الأشكال الأولى لما نعرفه اليوم بساعة الحائط.
يرجع هذا الاهتمام إلى رغبة العرب المحمومة في ابتكار آلة تعينهم على تحديد الوقت بدقة، ما يُسهّل عليهم أداء طقوسهم الدينية المرتبطة بالوقت مثل الصلاة والصيام، وهو ما يفسّر شيوع وضع تلك الساعات الكبيرة بالقرب من المساجد والمدارس الفقهية.
وبحسب الناشف، فإن الساعات المائية عند المسلمين اتخذت شكلين: أحدها "صندوق ساعات" وهو قابل للنقل، لذا كان ملوك المسلمين يهدونه إلى أصدقائهم الملوك في شتّى أنحاء العالم. النوع الثاني كان كبير الحجم، يحتاج تشغيله إلى غرفة لا يقل عرْضها عن 20 متراً وارتفاعها عن 10 أمتار، وهو ما يجعل نقلها مستحيلاً.
وكما روت لنا كتب التاريخ، فإن المسلمين أنتجوا 21 ساعة مائية ذائعة الصيت، 8 منها اختُرعت في دمشق، أشهرها الساعات المائية الأربعة التي أقيمت على أبواب المسجد الأموي.
ساعات المسجد الأموي
يقول محمد عيسى صالحيه في بحثه "الفيزياء والحيل عند العرب"، إن تكاليف بناء تلك الساعات الكبيرة كانت باهظة، فساعات دمشق وحدها تكلّفت 40 ألف درهم، وحازت شهرة كبيرة في أنحاء العالم الإسلامي، لذا تسابق الرحّالة على زيارتها والحديث عنها.
أقدم إشارة مباشرة وردتنا عن وجود تلك الساعات أتت في كتاب خطط دمشق لابن عساكر، والذي قال فيه "إنما سُمِّي باب الجامع القبلي باب الساعات، لأنه عمل هناك ساعات يُعلم بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها صورة عصافير وحيّة وغراب، إذا تمّت الساعة خرجت الحية وصاحت العصافير وسقطت حصاة في الطست، وهو ما أكّد لنا وجود تلك الساعات سنة 300 هـ تقريباً.
ظلّت تلك الساعات صامدة 12 عاماً أخرى، وهو ما يُمكن استقراؤه من رواية محمد بن عبدا لله عن أبيه محمد بن زير قاضي دمشق سنة 312هـ خلال حديثه عن "باب جامع دمشق القبلي الذي توجد عنده الساعات".
بعدها تتكرّر الإشارة إلى وجودها وصلاحيتها للعمل عند شمس الدين المقدسي، الذي أكّد في شهادته وجود الساعات سنة 376هـ.
لاحقاً، تعرّضت تلك الساعات إلى الضرر خلال الحريق الذي أصاب المسجد الأموي سنة 461هـ.
أيضاً، تكرّر الحديث عن الساعات الأخرى التي أقيمت عند باب جيرون (الباب الشرقي للجامع الأموي)، والتي أقيمت بمعرفة أبو عبد الله محمد القيسراني وظلَّ يعتني بها حتى احترقت سنة 559هـ.
لاحقاً وفد السُلطان نور الدين الزنكي على دمشق فوجدها مُهدّمة العمران، فاهتمَّ بإصلاح أحوالها، ومن جُملة إصلاحاته في دمشق هو إعادة تشغيل "ساعات باب جيرون"، وهي المهمة التي كلّف بها المهندس محمد بن علي الخراساني.
في عام 580هـ، زار الرحالة المغربي ابن جبير دمشق خلال قضائه فريضة الحج سنة 580هـ، وأسهب في وصف المدينة البديعة، وتعرّض إلى ذِكر الساعات، إذ يقول: "عن يمين الخارج من باب جيرون أمام غرفة ولها هيئة طاق (قوس) فيها طيقان صُفر فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ولقد دُبّرت تدبيراً هندسيّاً دقيقاً"، خلال شهادته الطويلة استعرض ابن جبير مدى قُدرة الساعة على إعلام الناس كلما مرّت ساعة من النهار، كما أشار إلى أن الحاكم عيّن على "غرفة الساعة" شخص يقوم على عنايتها وصيانتها لضمان حُسن عملها وسيرها.
ومن المُلاحظ أن ابن جبير الرحّالة المحنّك الذي شاهد الكثير والكثير، أطلق على "ساعة المسجد" لقب "المنجانة"، وهو الاسم الذي اعتاد أهل الأندلس والمغاربة تسمية ذلك النوع من الساعات به. فهذا الفن رغم صعوبته ونُدرة المتخصصين فيه لم يعجز عنه المسلمون في ذلك الحين وانتشرت نتائجه في مُدنهم الكبرى، وهو ما سنشرحه لاحقاً.
على أية حال، تعرضت "ساعة دمشق" لأضرارٍ جمّة على وقْع الحريق الذي أصاب الجامع الأموي سنة 681هـ/ 1325م، لكنها جُدّدت بشكلٍ شامل غيّر من شكلها ومن طريقة عملها. ذاك الشكل الجديد وصفه لنا ابن بطوطة خلال زيارته للمدينة إبان خضوعها للحُكم المملوكي سنة 1326م، وصف الساعات المطوَّرة قائلاً: "عن يمين الخارج من باب جيرون، وهو باب الساعات، غرفة لها هيئة طاق كبيرة فيها طيقان صغار مفتحة، لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخُضرة وظاهرها بالصُفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهراً والظاهر الأصفر باطناً (أي تتبدل ألوان الطاقات كلما مرّت ساعة من الزمن)".
بعد الزيارة البطوطيّة بـ14 عاماً تعرضت "ساعات المسجد الأموي" إلى الحريق مرتين: الأول سنة 740هـ والثاني سنة 794هـ، وعقب كل حريق كان الدمشقيون حريصون على إصلاح تلك الساعات باعتبارها واحدة من علامات المدينة، وهو المسلك الذي انتهى عقب اجتياح تيمورلنك دمشق في غزوته الدموية سنة 803هـ خلال حربه الدامية مع دولة المماليك المصرية.
خرّب تيمولينك عدداً كبيراً من معالم دمشق، وعلى رأسها الجامع الأموي، الذي تعرّض لحريقٍ كبير، دخلت بعده الساعات الكبيرة في طيِّ النسيان وغاب ذِكرها للأبد.
من المساجد إلى الميادين
لم تكن ساعات المسجد الأموي اختراعاً فريداً في العالم الإسلامي، فوقتها برع المسلمون في صناعة الساعات المائية ونثروها في بقاعٍ عِدة في مُدنهم الرئيسية؛ مثل الساعة التي وُضعت على باب "المدرسة القميرية" في دمشق، التي أنشأها الأمير ناصر الدين أبو المعالي الحسين القمري، وظلّت تعمل حتى عام 660هـ/1261م، وأيضاً ساعة ابن المُزلِق -تاجر دمشق- الذي ثبّت ساعة كبيرة عندما ما يُعرف حينها بـ"المدرسة الصابونية"، وكانت تُعطي إشارات خاصة في أوقات الصلاة الخمسة.
وهو ما لم يغب عن بغداد بالطبع، بعدما وُضعت فوق المدرسة المستنصرية ساعة ميكانيكية دقيقة، فحكت إحدى المخطوطات المحفوظة في دار الكتب بالقاهرة، أنه سنة 633هـ تكامَل بناء الإيوان الذي أُنشئ قبالة المدرسة المستنصرية، ورُكّب في صدره صندوق الساعات على وضعٍ عجيب، يُعرف منه أوقات الصلوات وانقضاء الساعة الزمانية نهاراً وليلاً".
وأيضاً ما ظهر خلال حُكم الدولة الميرينية المغربية، التي عرفت ذات الاختراع تحت اسم "المنجانة". فحسبما ورد في كتاب "تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى" لعثمان إسماعيل، ابتكر المهندسون المغاربة "غرفة تُحدّد الأوقات للناس" صُنعت عام 685هـ.
وسار الميرينيون على الدرب الدمشقي الكلاسيكي في الاهتمام بتزويد المساجد الكبيرة والمدارس الفقهية بساعاتٍ عملاقة، ثم توسّعوا عن ذلك فوضعوها في الأسواق والساحات العامة.
وقبل هؤلاء جميعاً، اشتهر العالم الأندلسي الشهير عباس بن فرناس، الذي وُلد في أواخر القرن الثاني الهجري ومات عام 274هـ، اشتهر باختراع الآلات الفلكية الدقيقة. وحسبما روى شريف يوسف في بحثه "الصناعات الدقيقة وعمل الحيل الميكانيكية عند العرب"، فإن ابن فرناس اخترع آلة لقياس الزمن سمّاها الميقاتة، رفعها إلى الأمير محمد عبدالرحمن (238هـ-273هـ) بعد أن نقش عليها الأبيات التالية: (ألا إنني للدين خير أداة/ إذا غاب عنكم وقت كل صلاة، ولم تر شمس بالنهار/ ولم تر كواكب ليل حالك الظلمات، بيمن إمام المسلمين محمد/ تجلّت عن الأوقات كل صلاة".
قد تكون تلك أول محاولة إسلامية لابتكار ساعة ميكانيكية دقيقة، وللأسف لا نعرف الكثير عن كواليس تلك "الميقاتة" ولا كيفية استقبال الأمير الأندلس لها ومدى اعتنائه بها وهل وُضعت فوق مسجد أو في ميدانٍ عام أم لا، لكننا نعرف المزيد عن آلية عملها من خلال زهير حميدان الذي تحدّث عنها عرَضاً في كتابه "أعلام الحضارة العربية الإسلامية"، إذ قال عنها: كانت تقوم على قياس وحساب درجات الظل وزواياه، التي تمثل الساعة والدقيقة والثانية، وكان شكلها دائري مثسّم إلى مسافات متساوية. كما قالت عنها المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه إن "ميقاتة ابن فرناس" ألهمت كل مَن أتى من بعده، فهي الصورة الأولى التي دفعت المخترعين لابتكار الساعات المائية أو الزئبقية أو الساعات الشمسية الدقّاقة.
من الميادين إلى الموالد النبوية
حسبما أورد عبدالعالي غزالي في كتابه "المجتمع التلمساني الزياني: دراسة للعادات والتقاليد والأعراف"، فإن الدولة الزيّانيّة الأمازيغية، التي ظهرت غرب الجزائر خلال القرن السابع الهجري، واتخذت من تلمسان عاصمةً لها، ارتقت باستخدام الساعات إلى أبعادٍ دينية طقسية.
البداية كانت عند عالم البلاط أبو الحسن علي بن أحمد -المعروف بلقب "ابن الفحّام"- الذي ابتكر ساعة "المنجانة" لسلاطين بني زيان مقابل حصوله على مكافأة سنوية قدْرها ألف دينار.
الفريد في هذه القصة، هو أن الدولة الزينية استخدمت دقّات الساعة ضمن طقوس الاحتفال بمولد النبي. يقول غزالي: بفضل تطور صناعة الآلات الميكانيكية في تلمسان، اعتمدوا عليها خلال الاحتفال بالمولد النبي، وكانت ساعة المنجانة تدقُّ كلما مرت ساعة من الليل، وهو ما كان يُراعى خلال الاحتفال ويُعدُّ إحدى علاماته البارزة.
وبحسب شهادة يحيى بن خلدون (شقيق ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير)، فإن ارتفاع المنجانة كان 50 ذراعاً، وعند انقضاء كل ساعة يهبط منها صنجة ثقيلة يتحرّك معها أجراس يُسمع وقعها من على بُعد.
وفي كتابه "راح الأرواح" منحنا الفقيه التلمساني ابن عبد الجليل التنسي المزيد من التفاصيل، إذ قال "بالقرُب من السُلطان خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية، فمهما مضت من ساعة وقع النقر بقدر حسابها".
وعنها قرَضَ الشاعر ابن الخطيب لسان الدين شعراً قال فيه: (تأمّل الرمل في المنجان منقطعاً يجري وقد ردَّ عُمراً مِنك منتهياً)، كما قال الأديب أبو العباس بن عبدالمنان: (وآية للمواقِت استقلَّ بها صُنع تفوت النهي لطفاً صنائعه).
ولم يتخلَّ الزينيون عن عادة تزويد المساجد بساعاتٍ كبيرة، ومن أشهر تلك القطع التي صنعوها الساعة التي وُضعت في جامع القيراون، صنعها من الخشب أبو عبد الله محمد التلمساني سنة 749هـ، حسبما ذكر خالد الخويطر في كتابه "جهود العلماء المسلمين في تقدُّم الحضارة الإنسانية".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.