يمكنني القول إن هناك خطوات عديدة يجب علينا كسودانيين القيام بها وملفات يجب تسويتها، حتى نصل إلى النهايات السعيدة، والسلام الحقيقي.
والبداية تكون بالتفاوض حول الملف السياسي أولاً، إذ إنه الضمانة الوحيدة لاستمرار عملية السلام، لأن الأزمة السودانية في حقيقتها وطبيعتها "أزمة سياسية" في المقام الأول، وهي السبب الأساسي في جميع عمليات الاقتتال التي شهدتها السودان في ظل سنوات الحرب.
وعلى هذا الأساس يجب أن نضع أولاً على طاولة النقاش والتفاوض القضايا القومية، المتمثلة في مبدأ المواطنة والتنمية المستدامة، والتوزيع العادل والمتوازن لمواردنا، بالإضافة إلى قضايا الحكم والإدارة والديمقراطية.
ثم تأتي الترتيبات الأمنية في المرتبة الثانية كضمانة لوقف نزيف الحرب وإسكات صوت الرصاص الذي حصد خير أبنائنا إلى الأبد.
وفي هذا الاتجاه يجب علينا عدم إغفال أو إقصاء أي طرف مسلح أياً كان حجمه ومصدر قوته، سواء داخل أو خارج السودان، لأن عملية السلام دون مشاركة جميع الأطراف ستكون ناقصة وتعود بنا إلى متلازمة الحرب والسلام في أي وقت.
ويجب التنبيه هنا إلى أن حسم ملف الترتيبات الأمنية، هو "كلمة السر" لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار والتنمية، والعودة الآمنة للنازحين واللاجئين والمشردين والمهجرين إلى ديارهم.
وفي يقيني أن عملية الترتيبات الأمنية عملية معقدة ومتقاطعة، ويجب أن تُفهم في سياقها الكلي ضمن إطار القضايا الإنسانية والسياسية وصياغتها بشكل ثاقب يحدد بوضوح آليات تنفيذها وتحويلها إلى واقع.
وإلى جانب ما سبق وحتى نخرج من متلازمة الحرب والسلام في بلادنا، أرى أن المخرج يكمن في إيجاد "سلام مستدام"، يكون مصدره إرادة الشعب السوداني، وليس الذين ينظرون إلى تحقيق السلام، من منظور الربح والخسارة.
أي ماذا نكسب؟ وماذا نخسر؟
ثم يأتي ملف إعادة تقييم "سلام جوبا، كخطوة رابعة، على أن يتم ربطه بمصلحة الشعب، وأهداف ثورته المجيدة، حتى لا نكرر التجارب سيئة الصيت ذاتها، ونعيد أخطاء الماضي.
ويجب أن يعلم جميع السودانيين بلا استثناء أن عملية السلام مهمة وطنية يجب أن تُساهم فيها جميع أطياف الشعب السوداني، وقواه الحية، وفصائله المدنية والعسكرية، إلى جانب أصحاب الشأن والمصلحة والمتأثرين بنتائج الحرب، سواء المباشرة منها أو غير المباشرة.
ولن تأتي عملية السلام عن طريق "مسارات جوبا" التي خلقت حالة من التشتت والتشتيت، وأفرزت لنا من يمكن أن نسميهم "تجار سلام"، ولم نكن نراهم من قبل، وتلك مسارات قد ساعدت في تفاقم معاناتنا، ووضعت عملية السلام كلها على كف عفريت.
لا يمكن أن نحقق أي سلام في السودان أيضاً، دون إعلاء قيمة مبدأ المواطنة كأساس وحيد للحقوق والواجبات، وإرساء الديمقراطية كنظام مستدام للحكم، وبناء جيش وطني موحد يعمل وفقاً لعقيدة عسكرية صارمة، تذوب بداخله كل "الميليشيات" والفصائل المسلحة التي تهدد بلادنا الآن بالحرب تحت أية لحظة.
كما أرى ضرورة العمل معاً لتحقيق السلام الشامل والدائم والمستدام، بما يحقق التوزيع العادل للثروة والسلطة، بقصد خلق توازن تنموي يحقق لنا التنمية المستدامة.
وضرورة إعادة تقييم وإدارة تنوعنا الديني والثقافي والأيديولوجي حتى نضمن السلام الاجتماعي قبل السياسي، وذلك لأن السلام قضية مفتاحية، لحل بقية عناصر الأزمة الوطنية الشاملة التي تعيشها بلادنا منذ فجر الاستقلال.
والمقصود هنا من السلام ليس ذلك السلام القائم على توزيع وتقسيم المناصب والمكاسب، بل سلام قائم على رؤية استراتيجية تستوعب جميع الذين حملوا السلاح، وأصحاب المرارات والمظالم، لا "تجار السلام" و"النفعيين"، حتى نصل إلى سلام حقيقي ونهائي ومستدام.
وفي الأخير يجب أن يسبق عملية السلام عقد المؤتمر الدستوري الموسع الذي طال انتظاره، وهو ذلك الحل الجذري لحل جميع مشكلات السودان.
وعلينا التنبه أيضاً إلى أن الضمان الوحيد لاستمرار السلام ليس الضمانات الدولية والدستورية والقانونية التي يتم تضمينها في اتفاقية السلام عادة، وإنما الإرادة السودانية التي سئمت الحرب.
كما نرى أيضاً أن مؤسسات المدّة الانتقالية وحدها ليست كافية كضمانة لتنفيذ أي اتفاق يمكن أن تفضي إليه عملية التفاوض، وإنما ضم كل القُوَى "المسلحة الموازية" للجيش السوداني في مؤسسة عسكرية وطنية واحدة تحمي الوطن وتدافع عنه وتحتكر السلاح.
وفي يقيني أن فرص استدامة السلام مرهونة بمدى تحول حركات المقاومة المسلحة إلى تنظيمات سياسية مدنية تضع السلاح أرضاً من أجل الاستعداد للمشاركة في الانتخابات العامة بنهاية المدّة الانتقالية.
ومرهونة أيضاً بمدى استعداد القوات المسلحة السودانية لاستقبال رفقاء السلاح، بعد الوصول إلى ترتيبات أمنية شاملة تفضي إلى جيش وطني موحد يمتلك خطة أمنية متكاملة لإصلاح القطاع الأمني السوداني كله، لأننا من دون ذلك سنعود وفي القريب إلى المربع ذاته الذي كنا فيه.
وقبل هذا كله علينا "إسقاط الانقلاب" لأنه لا سلام تحت تهديد السلاح والعساكر.
ونذكر أنه من غير هذه الخطوات لن يكون هناك سلام، يُفضي إلى تنمية مستدامة ومتوازنة في السودان، فهو "المحك"، والعنصر الأساسي نحو "معادلة السلام" و"التحول الديمقراطي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.