لَطالما كان الفن أداة اختراق ناعمة، يحمل رموزاً فكرية عابرة للثقافات، وخارقة للحضارات، ومدخلاً خطيراً قد يكون في ظاهره مجرد فن يحمل رسالة اجتماعية وترفيهية، لكن باطنه يحمل هدفاً سياسياً يعمل على توجيه العقل الجمعي للشعوب، وترسيخ صورة ذهنية معينة، تتسق وتتناغم مع رؤية الأنظمة السياسية التي يُراد ترويجها، أياً كان توجهها وانتماؤها، وتعزيز السرديات التاريخية وإن كان يشوبها الزيف والضلال.
فالفن والسياسة صنوان لا يفترقان، وليس في كل الأحوال يكون الفن معبراً عن روح الجماهير وقضاياها المصيرية، بل في الغالب يقوم الفن في المجتمع بدور الذبابة على الحصان، تدفعه ليتحرك، كلما زاد "الزَّن" حوله تمادت في مضايقته، فيظلّ يحرّك رأسه أو يجري يميناً وشمالاً، المهم أن يتحرك بأي شكل، وتلك هي غاية النظم السياسية والدول من وراء الاهتمام بالفن، أن يتبنى المجتمع فكرة يُراد لها الرواج، أو أن يدفعه الفن لاتخاذ موقف يتماهى مع سياسة بعينها.
تكمن خطورة الفن في أنه يُشكّل المعادل السياسي والتاريخي، وأحياناً الشخصي، الذي قد يستغني به الناس عن الاطلاع وزيادة المعرفة والبحث عن الحقائق من مظانّها والتأكد منها، فيقبل ما يُمليه عليه الفن ويُسلّم به، ومن هنا يتشكل السلوك وتتبلور الأفكار وتُصنع صورة ذهنية جديدة عن قضايا كانت بالأمس من المسلمات اليقينية، فيحولها التناول الفني إلى محل جدل ونقاش، ويزعزع ثوابتها عند العوام، فينهار في أعينهم من كان قدوة، ويُتهم من كان ضحية، ويُحترم من كان مجرماً.
فعلى سبيل المثال، أنتجت "هوليوود" فيلماً بعنوان Dracula Untold، يعني "دراكولا القصة غير المروية"، أظهرت من خلاله شخصية دراكولا على أنه الرجل الطيب الخلوق الذي اضطرته الظروف للتحالف مع الشيطان، من أجل قتل السلطان العثماني محمد الفاتح، وصور الفيلم السلطان العثماني على أنه شرير يستعبد أطفال ترانسلفانيا، ودراكولا قتله في النهاية داخل خيمته، مع أن دراكولا شخصية خيالية، ألَّفها الكاتب الأيرلندي "برام ستوكر" في أواخر القرن الثامن عشر، ومحمد الفاتح مات على فراشه موتة طبيعية، لكن الفن قلب الحقائق وحوّل الخيال التاريخي إلى واقع، لغرض سياسي بحت، للتأثير على العقول، خاصةً أولئك الذين لا يعرفون من التاريخ سوى تاريخ ميلادهم.
وفي فيلم صلاح الدين الأيوبي، حوّل المخرج يوسف شاهين شخصية عيسى العوام إلى رجل مسيحي أحبته لويزا، التي ساعدته في الهرب خوفاً من أن يقتله الصليبيون لتحالفه مع المسلمين ودعمه لهم، على حساب بني ديانته، في حين أن كتب التاريخ ذكرت أن عيسى العوام كان عربياً مسلماً، قد قضى نحبه وهو يحاول توصيل الأموال للمسلمين، ولم تكن في حياته لويزا الصليبية من الأساس، بل كانت في خيال يوسف شاهين فقط، فتكوَّنت صورة ذهنية خاطئة عن عيسى العوام بلا أي سند تاريخي أو ضرورة فنية.
ويعكس ما تنبهت إليه مجلة فورين بوليسي الأمريكية خطورة الفن، حين سلطت الضوء على النجاح الكبير الذي حققته الدراما التركية، حيث قالت: "إن الدراما التركية أثبتت أن كسب قلوب من يعيشون في العالم الإسلامي ليست مهمة مستحيلة، إنتاج تلفزيوني بسيط يمكن أن يُستخدم كأداة اجتماعية فعالة لإحداث تغييرات في التفكير والتأثير، والفوز بملايين العقول والقلوب". ومسلسل "أرطغرل" خير مثال على ذلك، وهو مسلسل تاريخي، صُنف بأنه من أكثر الأعمال الدرامية مشاهدةً في العالم.
فمن يتجاهل سلاح الفن في معركته يخسرها قبل أن تبدأ، فالفن أداة تلاعب للتحكم بالعقول وسياستها، سواء أكان في إحياء الذاكرة التاريخية وربط الشعب بحضارته وتمجيد رموزه، أو عبر تزييف التاريخ وتشويه الرموز وتحويل الضحايا إلى جناة، والقتلة إلى حُماة، وقد استوقفني حوار قيل في فيلم أمريكي بعنوان "هز الكلب" Wag The Dog؛ سأل أحد أبطال الفيلم صديقه: "لماذا يحرك الكلب ذيله؟ فردّ بقوله: لأن الكلب أذكى من ذيله، لو كان الذيل أذكى لهز الذيلُ الكلبَ".
والعبارة تعني أن المُتحكم في أي علاقة هو الأذكى والأقوى والمسيطر، فبالرغم من أن الشعوب أكثر عدداً وأكثر سطوة فإنه في معظم دول العالم يتحكم الفن في الشعوب، ويوجهها إلى حيث يشاء، لخدمة مصالح فئة قليلة تحكم وتسيطر، ولا تستطيع الشعوب الصمود أمام سطوة الفن لأنها منقادة على عمى، لشدة تأثيره وإمكاناته البراقة وحيله الناعمة.
فالفن أقوى روافد التحكم في هذا العصر، وكلمة السر في إصابة الشعوب بدوار العمى، كالدابة تدور حول الساقية لتروي أرض صاحبها مغمضة العينين، إلى أن تسقط مغشياً عليها.
وفي النهاية، لا يمكن أن ننسى دور نتفليكس في إنتاج أعمال فنية لترويج المثلية بين الأطفال والشباب، وقد نُفرد مساحة للحديث في هذه المسألة لاحقاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.